بعد كارثة نجع حمادى ومصرع سبعة من الشبان المصريين أمام باب كنيسة على أثر انتهاء ستة منهم من أداء قداس عيد الميلاد المجيد، أصبح لزاما علينا بعد أن نفيق من الصدمة، أن نفتش عن الأسباب الحقيقية وراء تلك الجريمة البشعة.. لقد بلغت جرائم الفتنة الطائفية ذروتها وعلينا أن نتصارح ونخرج من حالة الوجوم والصدمة ونتوقف عن الهروب من مواجهة الحقيقة البشعة. وكما كتب الكثيرون لم تعد الوسائل التقليدية مجدية، لقد فشلت جميعا ومعها استفحلت المشكلة وتراكم العداء وارتفعت درجة الاحتقان إلى درجة تنذر بالخطر وهناك ملفات لا حصر لها تنتظر أن تمتد لها الأيدى الأمينة على هذا البلد الحريصة على سلامته وأمنه ومستقبله. وعلى الحكومة أن تستجيب لنداءاتنا بل صرخاتنا المتكررة بإصلاح المناهج التعليمية وتثقيف المعلمين الذين يبذرون الفتنة وتوعية أئمة ووعاظ المساجد الذين لا يشغلهم شىء فى الحياة سوى المرأة، ..و..و.. واحدة من المشاكل التى آن الأوان أن نزيح الستار عنها هى مشكلة بناء دور العبادة لغير المسلمين فى بلادنا، وذلك الشعور العدائى والقلق الذى ينتاب العامة من بناء كنائس جديدة على أرضنا. بعض القرويين اتخذوا إجراءات عنيفة ضد إخوة لنا حاولوا بناء مكان للتعبد فى بيوتهم، وانتهى الأمر إلى ارتكاب جرائم عنف ضدهم، مع حيرة الأمن وتخبط رجاله إزاء عدم وضوح موقف الدولة من تلك المشكلة. ويبدو أن هذه المشكلة متأصلة بين المسلمين، ذلك الذعر الذى يصيبهم عند رؤية معابد أخرى تبنى لغيرهم فمنذ ما يقرب من مائة وخمسين عاما، وقت أن كانت مصر واقعة تحت الهيمنة العثمانية تصدى السلطان عبد المجيد بن محمود (1839-1861م) لحل تلك المشكلة وأصدر قانون «الخط الهمايونى» (أى القرار السلطانى) فى فبراير عام ,1856 وكان حاكم مصر وقتها هو سعيد باشا (1854-1863م) وللسلطان عبد المجيد فى ذاكرتنا واقعتان أولا أنه أصدر قانونا فرض على اتباعه التخلى عن العمامة ولبس الطرابيش، والثانى أنه كان وراء معاهدة 1848 التى قصقصت جناحى محمد على باشا وألزمته الحدود المصرية بعد انتصاراته على السلطان. وقد ساندت السلطان كل من بريطانيا وفرنسا، القوتين العظميين فى القرن التاسع عشر، ولكى يرد لهما الجميل أصدر عبد المجيد مجموعة من الفرمانات التى أطلق عليها اسم «التنظيمات» بهدف استرضاء الشعوب الخاضعة للسلطنة العثمانية فى دول أوروبا المسيحية ومحاولة دمجها بالمجتمع التركى/العثمانلى، ولإخماد الحركات الانفصالية التى تفشت مع صعود تيار الوطنية بين الشعوب. تصدرت الفرمان «الخط الهمايونى» عبارة يبرر فيها السلطان إصداره ذلك الفرمان: ل (حفظ الناموس فى حق جميع تبعتى (رعاياى) الموجودين فى أى دين كان بدون استثناء) أى بدون تمييز بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة،إلا أن السلطان ألزم كل من يعتزم (ترميم أو إصلاح أو تجديد الكنائس وإنشاءها بعرض صورة رسمها وإنشائها إلى «بابنا العالى» لكى تقبل تلك الصورة المعروضة ويجرى اقتضاؤها على موجب تعلق إرادتى السنية الملوكانية أو تتبين الاعتراضات التى ترد فى ذلك الباب فى ظرف مدة معينة) وذلك بعد أن «يستصوبها البطريرك أو رؤساء الملة» أولا. وياليتنا نعود إلى ذلك الخط الهمايونى الذى يؤكد على حرية العقيدة فيقول:(ينبغى أن تؤخذ التدابير اللازمة لأجل تأمين من كانوا أهل مذهب واحد مهما بلغ عددهم ليجروا مذاهبهم بكل حرية ثم تمحى وتزال مؤبدا من المحررات الديوانية جميع التعبيرات والألفاظ والتمييزات التى تتضمن تدنى صنف عن صنف آخر من صنوف تبعة سلطنتى السنية بسبب المذاهب أو اللسان أو الجنسية، لا يمنع أحد أصلا من تبعتى الشهانية عن إجراء فرائض ديانته). هل هناك وضوح أكثر من هذه العبارة الرائعة؟ وهل نحن اليوم نفعل ذلك - أم أننا صرنا نتبع مذاهب أخرى لا تمت للإسلام بصلة..؟ إضافة إلى ذلك يؤكد السطان: الخليفة فى «الخط الهمايونى» حق غير المسلمين فى التعيين فى التجنيد والترقى إلى أعلى المناصب فى كافة الوظائف العامة ومن بينها العسكرية: (إن جميع تبعة دولتى العلية من أية ملة كانوا سوف يقبلون فى خدمة الدولة ومأمورياتها بحسب أهليتهم وقابليتهم يقبلون جميعا عندما يفون الشروط المقررة سواء حق جهة السن أو الامتحانات فى النظامات الموضوعة للمكاتب بدون فرق ولا تمييز فى مكاتب دولتى العسكرية والملكية) ويقرر أن (المساواة الحقيقية تستلزم المساواة فى الوظائف أيضا فينبغى أن يكون المسيحيون وباقى التبعة غير المسلمة مجبورين أن ينقادوا بحق إعطاء الحصة العسكرية مثل أهل الإسلام وتنتشر وتعلق فى أقرب وقت أمكن وأن يتوضح أمر انتخاب الأعضاء الذين يوجدون فى مجالس الأيالات والأولوية من الإسلام والمسيحيين وغيرهم بصورة صحيحة وقد تعرض السلطان عبد المجيد للعديد من المؤامرات ومحاولات الاغتيال بسبب هذه التنظيمات، ولكنه أصر على تنفيذها، بغرض حماية الإمبراطورية شاسعة الأرجاء التى ورثها عن أجداده،. وظل أهل الذمة فى الدول التابعة للإمبراطورية العثمانية يتمتعون بحق بناء كنائس جديدة وترميم وصيانة القديمة، وهو ما يفسر كثرة الكنائس التبشيرية الأجنبية فى كل البلاد العربية. ولم يدم شهر العسل بين الدولتين العظميين ورجل أوروبا المريض (السلطنة العثمانية) طويلا، فبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 فرضت بريطانيا حمايتها على مصر، وبدأ المصريون يعيدون النظر فى كل ما ينتمى للدولة العثمانية، ومن بينها فرمان الخط الهمايونى وبدلا من التقدم خطوة للأمام تراجع موقف مصر من تلك المسألة عشرات الخطوات، عندما أصدر وكيل وزارة الداخلية «محمد العزبى باشا» فى نهاية عام 1933 قرارا يتضمن عشرة شروط لابد أن تتوافر لمن يرغب فى الحصول على ترخيص ببناء أو تجديد كنيسة على أرض مصر وكانت هذه الشروط أقرب إلى التعجيز من التيسير. بعد إعلان ثورة يوليو بشهور قليلة أثيرت مشكلة حول بناء إحدى الكنائس وأصدر السنهورى باشا فى ديسمبر 1952 حكما قضائيا بإزالة أية قيود تعترض حرية الشعائر الدينية.. إلا أن المشكلة أثيرت مرة أخرى فى نوفمبر عام 1972م بعد أحداث حرق كنيسة العذراء بالخانكة، ورأت لجنة برلمانية رأسها آنذاك الراحل الدكتور جمال العطيفى أن إصدار قانون موحد لتنظيم إنشاء وإصلاح دور العبادة دونما تمييز ضد أية جماعة من شأنه أن يقضى على العنف الطائفى. للأسف لم يصدر هذا القانون حتى يومنا هذا، كما لم تتوقف الاشتباكات والصراعات الطائفية أو تهدأ بل لعلها زادت عن أى فترة سابقة فى تاريخنا. لقد كان الدستور المصرى السابق دستور ,1923 يتضمن المادة 12 التى تنص على أن «حرية الاعتقاد مطلقة » ثم أضيفت فى الدستور الحالى المادة 2 التى تنص على أن مصر دولة إسلامية والشريعة الإسلامية هى المرجع الأساسى لكل القوانين، فهل فى الشريعة الإسلامية ما يضيق على أهل الذمة فى ممارسة شعائرهم فى دور عبادة خاصة أو يمنعهم من تجديد وترميم كنائسهم..؟ لقد وافقت اللجنة البرلمانية المختصة على موضوع المشروع الذى قدمته لجنة الاقتراحات والشكاوى بمجلس الشعب منذ فترة إلا انه لم يناقش حتى اليوم. وإذا كان من حق كل دولة أن تنظم الحياة على أرضها وفقا لما يتفق مع ثقافتها ومصالحها، فلابد أن تطبق التعليمات والتدابير على كل المواطنين بصرف النظر عن الاختلافات العرقية أو الدينية . والمادة40 من الدستور تنص على «المواطنون لدى القانون سواء وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة كما أن المادة الثامنة من الدستور تقول « تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين». فلماذا يتعثر مشروع القانون الموحد لدور العبادة ؟ سؤال سيظل يتردد فى أذهاننا إلى أن تبرأ الدولة من حالة الطناش التى أصيبت بها منذ سنوات طويلة.