دون شك فإن نتيجة الاستفتاء الذي تم إجراؤه في الاتحاد السويسري والذي ذهب فيه 59٪ من المواطنين إلي الموافقة علي حظر بناء المآذن في سويسرا هي نتيجة مستفزة لمشاعر المسلمين في جميع أنحاء العالم، حيث تصطدم نتيجة الاستفتاء مع حقوق المسلمين كأقلية دينية، وتصطدم أيضا مع التراث السويسري في احترام حقوق البشر عموما بمن فيهم المسلمون الذين يقيمون علي الأراضي السويسرية، وقد ظهرت بالفعل دعوة لمقاطعة سويسرا سياسيا واقتصاديا .. إلخ عقابا لها علي نتيجة الاستفتاء. وقد أطلق الدعوة رئيس المنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة عبد العزيز التويجري، وهي في الغالب لن تكون الدعوة الوحيدة للمقاطعة والعقاب والخصام وسط أحاديث كثيرة أخري عن كراهية الغرب للإسلام والمسلمين وتصاعد موجات العداء للإسلام .. إلخ، وشاهد الحال أيضا أن هذه الدعوات بالمقاطعة والعقاب والحرب تشهد قبولا كبيرا من المجتمعات العربية والإسلامية في اللحظة الراهنة، ويجد فيها الجميع مناسبة للتوحد ضد عدو مجاني لا تكلف عداوته شيئا بقدر ما تفتح الباب للتنفيس عن مشاعر إحباط وعجز مكبوتة، كما تفتح الباب للمزايدة بين الجميع حول من هو أكثر ولاء للإسلام من غيره، وفي الغالب تنتهي الضجة إلي لا شيء، ولا يسلك المسلمون الطريق التي يمكن أن يربحوا بها المعركة بعد أن ينهمكوا في إظهار الغضب والأسي والحزن والكراهية، ويمارسوا أكبر قدر ممكن من الحركة في المكان متخذين وضع القتال، وهو ما لا ينتج عنه عادة سوي قدر كبير من الغبار لا يتيح الرؤية السليمة لا للمسلمين أنفسهم، ولا لأولئك الذين نريد لهم أن يعرفوا أن المسلمين غاضبون، وقبل أن ننخرط في هذه الحالة يمكن لنا أن نسجل بعض الملاحظات وهي كالتالي: أولا: لا الحكومة السويسرية ولا البرلمان السويسري ولا أي جهة رسمية سويسرية كانت هي الداعية للاستفتاء، بل إن الرئيس السويسري خرج علي شاشة التليفزيون ليناشد المواطنين السويسريين عدم الموافقة علي حظر بناء المآذن، ويشرح لهم ما هي هذه المآذن التي عرفها جيدا حين كان يعمل في بعض البلاد العربية. ثانيا: إننا يجب ألا ننظر لما حدث علي أنه تعبير عن عداء مسيحي للإسلام ليس فقط لأن سويسرا دولة علمانية بمعني الكلمة، ولكن لأن الأساقفة السويسريين والفاتيكان نفسه أدان نتيجة الاستفتاء واعتبره دليلا علي تراجع التسامح في سويسرا. ثالثا: إن الذي قاد الدعوة للاستفتاء وجمع التوقيعات اللازمة لإجرائه هما حزب (الشعب) و(الاتحاد الديمقراطي )، وهما من أحزاب اليمين المتطرف الذي يشهد صعودا في أوروبا كلها، وهو يمين معادٍ للأجانب بشكل عام سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وبالتالي لايجب أن نتعامل مع المعركة علي أنها معركة دينية لأن هذه إحدي زوايا الموضوع وليس الموضوع كله. رابعا: إن نتيجة الاستفتاء لن تتحول إلي قانون ملزم إلا بعد فترة تتراوح من ستة شهور إلي تسعة شهور، وهي فترة كافية لكي يوحد المسلمون في سويسرا جهودهم، إما لإلغاء نتيجة الاستفتاء أو لجمع التوقيعات لإجراء الاستفتاء مرة أخري مع بذل الجهد الكافي للرد علي الادعاءات اليمينية بأن المسلمين جاءوا ليحتلوا أوروبا ... إلي آخر هذه الافتراءات التي تجد لنفسها سندا في تصريحات وتصرفات بعض المرتزقة الذين يعيشون علي المتاجرة بهموم المسلمين في أوروبا من مسلمي أوروبا. خامسا: لا يجب ونحن نقرأ المشهد أن نقرأ سطرا ونترك سطرا، وفي هذا الإطار يجب أن نقف أمام الأخبار التي تقول إن حزب الخضر السويسري- وهو غير فريق الخضر الجزائري- قد شرع في الطعن علي نتيجة الاستفتاء أمام المحكمة الدستورية في سويسرا وأن علي المسلمين في سويسرا أن يصطفوا خلف هذا الحزب الذي رفع الدعوي لأنه رأي أن النتيجة تمس حقوق مواطنين سويسريين، وليس لأن قادته غيروا عقيدتهم الدينية وقرروا فجأة أن يصبحوا مسلمين، وأننا بدلا من أن ننخرط في رقصة الغضب الجماعي التي نمارسها بين فترة وأخري يمكن أن نوحد جهودنا في خوض معركة قانونية وحقوقية وإعلامية في وسائل الإعلام السويسرية وليس المصرية والإسلامية كما نفعل دائما، علي أن يكون هدف هذه المعركة إبطال نتيجة الاستفتاء وتبصير الرأي العام هناك بحقيقة دور المئذنة وحقيقة الإسلام كدين والمسلمين كبشر. سادسا: إننا يجب أن نتحلي بالموضوعية وبالصراحة والقدرة علي مكاشفة الذات وأن نتأسي بالمثل القائل: (رحم الله امرأ أهدي إلي عيوبي) وأن علينا أن نفهم واقع مسلمي أوروبا وأن نقرأ المخاوف الأوروبية تجاههم بعين فاحصة تستطيع أن تفرز المخاوف الموضوعية فتهدئها؟ وتتعامل معها والمخاوف التي يصطنعها المتطرفون هناك فتفندها وتتعامل معها بنفس السلاح الذي تستخدمه فتبطل مفعولها. سابعا :تقول الأرقام إن عدد المسلمين في أوروبا يتراوح ما بين 15 وعشرين مليون مسلم يعيشون في أمان تام ويتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة وإن كانت مراكز الحقوق والدراسات قد شهدت تزايدا في الانتهاكات - بالمعايير الغربية وليس الشرقية - ضد هؤلاء المسلمين بعد أحداث 11سبتمبر، وهو أمر يجب أن نتوقعه ونتعامل معه. ثامنا: كما أننا نغضب حين تتدخل دول غربية وتتصل بمواطنين في دول عربية وإسلامية بدعوي حماية الأقليات أو تقديم الدعم لهم فإننا يجب أن نفهم أن بعض الدول الغربية تشعر بنفس الشعور حين تصلها معلومات عن تبرعات بالملايين والمليارات تصل لمواطنيها المسلمين لبناء مراكز إسلامية ومساجد وتمويل اتحادات المسلمين هناك خاصة أن عددا كبيرا من هذه الحكومات لا تتباطأ في تقديم الدعم اللازم لبناء المساجد والمراكز الإسلامية إذا طلب منها ذلك. تاسعا: في هذا الإطار يجب الالتفات إلي أن بعض المسلمين يسيئون للإسلام في أوروبا وغيرها أكثر مما يسيء أعتي المتطرفين اليمينيين وأن هؤلاء اليمينيين غالبا ما يستخدمون تصريحات لمتطرفين مسلمين في الغرب لإقناع الشعوب بوجهة نظرهم في المسلمين الذين يعيشون في أوروبا وكونهم خطرا علي قيم التسامح والحضارة والتعددية. ومن ذلك مثلا استخدام السياسي السويسري اليميني أوسكار فرايسنجر لتصريح منسوب لرئيس الوزراء التركي رجب أردوغان يقول فيه إن (المئذنة هي حربتنا)، وبعد ان استشهد بالتصريح قال السياسي المتطرف مخاطبا شعبه (لا أريد لحرابه أن تنصب هنا في سويسرا) والحربة هي أداة قتال معروفة، والحقيقة أن التصريح لو كان صحيحا يكشف عن عدم لياقة سياسية مذهلة خاصة أن للمآذن دورا حضاريا ومعماريا ووظيفيا بخلاف مسألة إنها (حربتنا) هذه. عاشرا: إلي جانب الحماقات الكبري والجرائم الحقيقية التي تورط فيها مسلمون يقيمون في الغرب مثل 11سبتمبر وتفجيرات لندن وتفجيرات مدريد ومحاولات التفجير في باريس، وهي كلها جرائم لتنظيم القاعدة يجب أن ندرك أثرها ،لا يحرم الله المسلمين في أوروبا من أشخاص يتحلون بالتفاهة إلي جانب الغباء ويقومون بتشويه صورة المسلمين هناك بأكثر مما يمكن أن يفعل أكثر أعدائهم، من هؤلاء علي سبيل المثال لا الحصر شخص يدعي سعيد عثمان يرأس منظمة للمسلمين الأفارقة في فرنسا ظهر في وسائل الإعلام منذ عامين ليروي أن منظمته أرسلت طفلا مسلما عمره 13 عاما للجهاد في العراق، وقد أثارت قصة الطفل (صلاح ) وسائل الإعلام الغربية بشكل لا يمكن تخيله ليس لأنه ذهب ل(الجهاد)، ولكن لأنه طفل ! ولا يعدم المسلمون في أوروبا أشخاصا كثيرين علي شاكلة سعيد عثمان يسيئون للإسلام بأكثر مما يحلم أعداؤه، ولا يمكن في هذا الإطار أن نتجاهل تصريحات شخص مثل عمر بكري زعيم منظمة "المهاجرون في لندن" والذي أعلن بجهل يحسد عليه أن البريطانيين العاملين في الجيش والشرطة في بريطانيا سينقلبون علي وطنهم من أجل إعلان الخلافة الإسلامية، وهو ما يعني أنهم سيخونون وطنهم، فضلا عن تفاهات أخري مثل توجيه الدعوة لملكة بريطانيا للدخول في الإسلام، وإعلانه عن نيته إعلان الخلافة الإسلامية من لندن، وهو ما دفع كثيرا من المسلمين إلي الشك في عمالته للمخابرات البريطانية، ولا يمكن أيضا أن ننسي تصريحات وممارسات شخص مثل أبوحمزة المصري - محبوس منذ عام 2006 لمدة سبع سنوات بتهمة الحض علي كراهية غير المسلمين رغم أنه مواطن بريطاني. حادي عشر: يجب أن نفهم أن القاعدة الأساسية للمسلمين في أوروبا هي قاعدة جيدة وفي أسوأ الأحوال غير متطرفة في أي اتجاه، ولكن المشكلة هي أن قادة الجاليات والتجمعات الإسلامية الذين يتم انتخابهم علي قاعدة دينية يجدون أن إثارة المشاكل علي أساس ديني يمنحهم مزيدا من الشرعية والوجود سواء أمام السلطات الغربية أو أمام المسلمين في أوروبا أو أمام الجهات الإسلامية الداعمة للمراكز الإسلامية في أوروبا. ثاني عاشر: إن بعض المسلمين في أوروبا يريدون أن يتواجدوا في قمة الجبل وعلي السفح في وقت واحد، وهذا مستحيل، حيث يريد بعضهم أن يتمتع بمميزات المواطنة الأوروبية ويحصل علي فرصة عمل أو علي إعانة بطالة، وفي الوقت نفسه يعادي المجتمع الذي يعيش فيه ويرفض الاندماج معه، ويقول إن الديمقراطية كفر .. إلخ، والحقيقة أيضا أن المسلمين في أوروبا يتمتعون بحقوق مواطنة ممتازة وبعضهم يمارس قدرا من الحرية لايستطيع ممارسة نصفه في مجتمعه الأصلي. ثالث عشر: إن الشعب السويسري قد تأثر بالدعايات المتطرفة ووافقت أغلبيته علي منع بناء مآذن المساجد وليس المساجد نفسها، ومع ذلك فإنه لا الأقلية ولا الأغلبية منعت المسلمين من بناء المصانع أو المزارع أو المعامل أو الشركات، وهي كلها منشآت لو انخرطوا في بنائها لنفعوا إخوانهم المسلمين ومجتمعاتهم الأصلية ومجتمعاتهم الجديدة أيضا بدرجة لا تقل إطلاقا عن النفع الذي يتسبب فيه بناء مآذن المساجد. رابع عشر: يقول تقرير عن أحوال المسلمين في سويسرا نشرته شبكة (المسلم ) السلفية عام 2000 أن المسلمين في مقاطعة بيرن حصلوا علي بعض المكاسب منها: تدريس الدين الإسلامي في المدارس ودور الحضانة، والسماح بصلاة الأعياد والجمع في الساحات والشوارع، وتحويل حركة المرور وقت الصلاة، وهو أمر جلل في سويسرا، ومنها أيضا ذبح الحيوانات وفق الشريعة الإسلامية، وكان من الغريب أن تعتبر الشبكة أن هذه المكاسب دليل علي حصافة وقوة المسلمين في سويسرا، ولا تعتبرها دليلا علي قوة الديمقراطية في سويسرا. أخيرا: معركة المآذن هي معركة عادلة، لكننا لن نكسبها إلا إذا توقفنا عن أداء رقصة الغضب الذاتي وخاطبنا العالم باللغة التي يتحدث بها، وفيما عدا ذلك سيخسر المسلمون القضية العادلة، وكم من قضايا عادلة خسرها المسلمون!؟