جمعت من أحاديث الواقفين فى طوابير التصويت العديد من الأسئلة الخطرة.. من نوعية صحيح أنت مع مين؟.. مع بتوع التحرير والا بتوع العباسية؟.. مع السلفيين والا الإخوان؟ مع الأقباط والا السنية؟.. مع الدولة المدنية والا حكم العسكر؟.. أنت ليبرالى والا دينى؟.. مع شباب الثورة ولا من الفلول؟.. وكانت مثل هذه الأسئلة المرعبة تزعجنى.. وتسحق أمنياتى لأننى ببساطة مصرى مع مصالح مصر.. وشعرت بما تحمله الأسئلة فى طياتها من تخوف وقلق.. وبوادر احتشاد أطراف مصرية فى مواجهة أطراف مصرية أخرى.. وأصبح السؤال الأخطر: ما كل هذا الاستقطاب السياسى.. وإلى أى طريق يقودنا هذا الاستقطاب إذا تركناه يتزايد فى مجتمعنا؟! منذ عشرين عاما مضت تقريبا انزعجت عندما سمعت أحد الأصدقاء السودانيين يروى بفخر عن بطولات والده فى نصرة الإسلام بقتال الوثنيين الكفرة فى الجنوب.. وتوقعت انفصال جنوب السودان.. وعندما زرت يوغوسلافيا السابقة عام 2891 وسمعت الكثير من القصص التى تشرح تخوف مسلمى البوسنة من الصرب.. وقلق سكان الجبل الأسود من السلاف.. واحتشاد كل قومية ضد الأخرى بالنكات والتشويه والاحتشاد.. صارت عندى مؤشرات انهيار الدولة واضحة، وهو ما حدث بالفعل.. بسبب الاستقطاب العرقى والدينى.. وهو نفس السبب الذى كان من أهم أسباب انهيار نظام مبارك.. حيث بدأ الاستقطاب السياسى فى النصف الثانى من فترة حكمه ينمو تدريجيا فى شكل مجموعة حاكمة يقودها مبارك تنعزل تدريجيا عن المجتمع المصرى الذى تحكمه.. احتكروا السلطة والثروة.. وفى المواجهة بدأ المصريون تدريجيا يمارسون كل أشكال المقاومة السلبية التى تطورت من النكات السياسية.. وعدم المشاركة حتى فى التصويت الانتخابى.. إلى الاعتصامات والإضرابات.. وخلال السنوات الخمس الأخيرة من حكم مبارك شهدت مصر اندلاع أكثر من ثلاثة آلاف مظاهرة واحتجاج وإضراب.. وكان التزوير الفاجر فى انتخابات عام 0102 بمثابة القشة التى قصمت ظهر السلطة. * يعنى إيه؟ وعندما طرحت قضية التوريث كانت تعبر فى بعض جوانبها عن مدى انعزال نظام مبارك عن الشعب الذى يحكمه.. وأنه قطع بالفعل شوطا واسعا فى الاستقطاب السياسى الذى قاد نظامه إلى الانهيار.. وكان الخطاب السياسى لهذا النظام يكشف عن استخفاف النخبة الحاكمة بكل القوى السياسية.. فالشعب المصرى خامل لا يثور، وبالتالى ليس له أى ثقل سياسى يمكن أن يؤخذ فى الاعتبار.. والشباب المصرى سلبى أو خليع مشغول بتفاهاته وفى أحسن الأحوال يمكن جذبه بشعارات «الفكر الجديد».. و«جيل المستقبل».. وقوى المعارضة الحزبية تم ترويضها.. والأقباط يمكن تخويفهم بتيارات الإسلام السياسى.. وهكذا تعمق الاستقطاب السياسى والدينى.. ووصل الأمر فى النهاية إلى انقسام حاد فى المجتمع المصرى.. طبقة حاكمة يقودها مبارك ويحصل أفرادها على كل شىء متاح لهم.. وباقى الشعب بكل ما فيه من قوى معارضة يحرمون من كل شىء حتى الأمل فى مستقبل أفضل.. وجاءت ثورة يناير لتضع النهاية لنظام حكم مارس أسوأ أشكال الاستقطاب السياسى. وحتى نفهم خطورة بوادر الانقسام والاحتشاد والتخوفات التى نعيشها فى مصر الآن.. يجب أن نذكر أن جوهر عملية الاستقطاب السياسى أو الدينى هو حشد الأفراد وتعبئتهم بطريقة منظمة لدعم وتنفيذ برنامج سياسى محدد ذى رؤية واحدة.. لذلك فالاستقطاب لا يسمح بالتعدد ولا بالتنوع ولا يقبل بالاختلاف فى وجهات النظر.. لأنه ينطلق من سلامة موقف الذات.. وخطأ الغير وانحرافه.. وإذا كان الاستقطاب لا يقود تلقائيا إلى اندلاع حرب أهلية «كما حدث فى لبنان أو السودان أو يوغوسلافيا السابقة مثلا».. إلا أنه يوفر جميع الشروط السياسية والنفسية التى تحول الخلاف فى الرأى إلى نزاع، ثم تصعيد هذا النزاع وجعله قابلا للاشتعال فى أى لحظة.. كما يشير الكثير من علماء الاجتماع السياسى. الخطير هنا أن الاستقطاب السياسى والدينى بعد ثورة يناير ظهر واضحا فى انقسام الآراء حول كل القضايا التى طرحت على الساحة المصرية.. واختلفت عليها كل القوى السياسية الفاعلة.. من الخلاف حول الدستور أولا أم الانتخابات.. إلى عدم الاتفاق على وثيقة د. السلمى الخاصة بالمبادئ فوق الدستورية.. إلخ، ونبهنى إلى هذا الخطر الواقفون فى طابور الانتخابات.. حيث بدا واضحا قلق الأقباط من فوز تيارات الإسلام السياسى بالأغلبية فى البرلمان.. وقلق مرشحى السلفيين من نشاط مرشحى الليبراليين.. إلخ، واتسم سلوك المجلس العسكرى فى هذه المرحلة بالذكاء ربما لتفهمه لحالة الحرية السياسية التى يعيشها المصريون لأول مرة منذ فترة طويلة.. وأيضا لتفهمه لعمق التنافس بين التيارات السياسية المختلفة على محاولة الانفراد بمشروع بناء مصر الحديثة وهوية دولتها.. حيث حاول المجلس العسكرى تمرير الأمر على أنه متوقع ولم يتورط فى الدخول فى معارك فاشلة تستنزف فيها شرعيته وإجماع الناس عليه.. وربما يرجع هذا الموقف إلى قناعاته بأن مصلحة مصر هى الهدف.. ويجب على كل المصريين أن يتعاونوا جميعا على تحقيقها.. بغض النظر عن التصنيفات المتداولة.. سلفى.. إخوانى.. ليبرالى.. قبطى.. من ثوار التحرير أو من ناشطى العباسية.. إلخ، فالكل مصرى يعمل من أجل مصر أو هذا ما يجب أن يكون عليه الأمر. * أخطأ الجميع أزمة المواطن المصرى العادى تمثلت فى أنه حرم من ممارسة حقه فى المشاركة السياسية الجادة لفترة طويلة.. وعندما مارسها فجأة وقع فى فخ الاستقطاب السياسى والدينى.. لذلك كان أغلب الواقفين فى طابور التصويت لا يعرفون برامج المرشحين أو الفروق بين القوائم.. فأصبح المنطق السائد هو الاختيار على الهوية الدينية أو السياسية.. وأصبح السؤال: أنت مع مين؟ الكنيسة والا الجامع؟.. الدينى والا العلمانى؟.. وهكذا أخطأ أغلب الناخبين لأنهم صاروا ضحية لنوع ردىء من الاستقطاب الذى لا تحكمه القناعات العقلية الراسخة أو البرامج الفكرية المحددة.. بقدر ما يحكمه نظام الولاءات الدينية أو منطق «شلل» المصالح السياسية وضاعف من حجم المشكلة أن ثورة يناير فتحت الأبواب أمام كل المشاريع الفكرية.. وأمام كل من يملك رؤية وقدرة على الحشد والتعبئة والتنظيم.. وكل من يستقوى بالشارع والصوت العالى.. واستجاب لهم الناخبون.. وهى حالة بقدر ما تعبر عن اتساع مساحة المشاركة السياسية.. بقدر ما تشكل خطرا على وحدة المجتمع وتماسكه.. خصوصا إذا لم توجه هذا الاستقطاب حول تعاون الجميع لتحقيق مصلحة مصر والمصريين جميعا.. وإعلاء قيم الوطنية المصرية لدى الشعب المصرى بغض النظر عن انتماءات أفراده. ومن ناحية أخرى أخطأ أغلب المرشحين لأنهم سعوا إلى تعميق الاستقطاب الدينى والسياسى فى العملية الانتخابية.. متجاهلين أن هذه العملية تهدف فى الأساس إلى تحقيق مصالح الوطن والمواطن.. وتحقيق هذه المصالح لا يتم بالانحياز لطرف على حساب آخر على أساس دينى أو سياسى.. فإذا تفاقمت الأزمة الاقتصادية فى مصر - لا قدر الله - فلن تصيب أضرارها المسلمين وحدهم وينجو من هذه الأضرار الأقباط أو العكس.. ولن تسحق هذه الأضرار ثوار التحرير وحدهم ويستفيد منها ناشطو العباسية.. أو العكس.. فكل المصريين فى مركب واحد وأى ضرر يصيبه سيؤثر على الجميع بلا تفرقة.. من هنا كانت عملية الاستقطاب الدينى أو السياسى التى شهدتها المرحلة الأولى من الانتخابات انتهاكا لمبادئ الديمقراطية.. التى تفرض أن يسود الوعى السياسى جمهور الناخبين قبل الإدلاء بأصواتهم.. وبما يتيح لهم حرية الاختيار .. * ما الحل..؟ من الواضح أن مشكلة الاستقطاب السياسى والدينى مازالت فى مراحلها الأولى.. وترجع أهم أسبابها إلى أن المجتمع المصرى بعد ثورة يناير أصبح فى حالة سيولة وانتقال لم تتشكل ملامحها النهائية بعد.. وهى مرحلة تتسم بالتغيرات السريعة.. والمطالب المتناقضة من مختلف الأطراف.. لأن كل طرف حاضر فى المعادلة السياسية.. ويدافع عن موقعه أولا.. ويريد أن يرسل رسالة إلى شركائه فى الوطن.. وشركائه فى الخريطة السياسية.. تشير هذه الرسالة إلى أن له مقدارا ونفوذا وقدرات وأدوات.. ربما لذلك يميل كل طرف إلى المبالغة فى ردود الأفعال.. فمثلا نجد أصحاب التوجهات الدينية «إسلامية أو مسيحية» رغم أنهم لم يفجروا ثورة يناير.. وإن شاركوا فيها.. إلا أنهم بعد نجاح الثورة يحاولون تحقيق فوائد وكسب مواقع سياسية أكثر مركزية وأكثر حضورا فى المشهد السياسى المصرى المستقبلى.. ربما لذلك تورط البعض فى ارتكاب حوادث طائفية متهورة.. وشارك البعض الآخر فى ارتكاب حماقات لا مبرر لها.. وكان الدافع فى كل الحالات هو محاولة إثبات الذات والسعى إلى الحصول على مواقع أكثر أهمية فى الخريطة السياسية القادمة.. دون الحرص على المصلحة الوطنية.. وتتسم بصراحة شديدة بالأنانية المفرطة وتؤدى فى النهاية إلى خسارة الوطن والمصريين جميعا.. ودراسة حالات الدول التى انهارت أو تمزقت بسبب تجاهلها لخطر الاستقطاب السياسى وهى معروفة.. كما أن دراسة حالات الدول التى تجاوزت هذه المشكلة بنجاح وخرجت إلى آفاق التقدم.. ضرورية.. ومثل هذه الدراسات تدعونا إلى القول بأهمية أن تنشغل كل القوى السياسية بالوصول إلى توافق حول برنامج عمل وطنى ينهى حالة الانقسام والاستقطاب الحاد ضمن خيارات متنوعة لا تقصى أحدا.. فقد شهدنا جميعا سقوط نظام مبارك لانفراده بالحكم وإقصائه للآخرين.. وهو ما يشير إلى حاجتنا إلى التوافق على نظام اجتماعى وسياسى مفتوح يشارك فيه الجميع ولا يصنف الناس بين «مع» و«ضد».. أو وطنيين وخونة.. وليمثل هذا البرنامج طوق نجاة يحمى تماسك المجتمع.. ويدعم دور كل أطيافه فى صنع الحاضر والمستقبل.. ولنعد مثلا إلى الشعارات التى رفعها آباؤنا أثناء ثورة 9191 مثل: «الدين لله والوطن للجميع»، هكذا يمكن أن نواجه خطر الاستقطاب.. الذى سيقودنا من التنابز بالأفكار إلى الاقتتال الذى سيخسر فيه الجميع حتما.. وعلى من لا يصدق خطورة الاستقطاب السياسى والدينى أن يسأل أشقاءنا فى لبنان: كيف قادهم الاستقطاب إلى حرب أهلية استمرت عشر سنوات ومازالت مشاهدها تدمى ذاكرة الجميع! وبعد كل هذا يجب على المصريين جميعا القبول بحكم صناديق الانتخابات كمدخل لحكم ديمقراطى فى مصر بشرط التزام الجميع بكل قواعد اللعبة الديمقراطية الصحيحة.. باختصار، ليس مطلوبا منا أن نعيد اختراع «العجلة» فتجارب دول العالم كلها متاحة لنا.. وعلينا أن نختار الآن وفورا بين طريق الندامة، حيث يخسر الجميع، وطريق السلامة حيث يربح الجميع.