تشير كل الوقائع والتفاصيل المتواترة ، بعد المعركة الانتخابية ، إلى أن البلاد تندفع نحو لحظات شديدة الحرج والحساسية ، مّحملة بالمخاطر والتعقديدات ، قد تدفع بالبلاد إلى منحدر زلق بلا نهاية ، لكنها فى المقابل ، تملك فى أحشائها احتمالات إيجابية أيضا ً ، قد يكون فيها بدايات نهوض وطنى عام ، ينقذ الوطن من أزمته ، ويضع المجتمع على أول طريق التقدم . فمن جهة تتصاعد الصراعات المختلفة المستويات [ اجتماعية : بسبب تفاقم مظاهر الفقر والبطالة وتدهور الأحوال للأغلبية العظمى من المواطنين ، وسياسية : بسبب فساد النظام وتآكل صدقيته وإصراره على الإنفراد بمقاليد السلطة ، ووطنية : بسبب التدهور العام لوضع مصر فى البيئة الإقليمية والدولية ، وانعكاسا ً للانتهاكات الصهيونية والأمريكية المستمرة للمصالح الوطنية والقومية . . ألخ ] ، وعناصر النقمة والاحتقان تنمو فى أحشاء المجتمع ، والكل غاضب ومستثار ، والوضع برمته قابل للانفجار فى أى لحظة ! . ومن جهة أخرى تشير وقائع الأسابيع القليلة الماضية إلى حراك سياسى ضخم فى المجتمع ، مثلت مقدماته الحركات الجماهيرية الجديدة : كفايه ( والأساتذة – المهندسين – الأدباء والفنانين – الصحفيين – الطلاب – الشباب – الأطفال – النساء . . ألخ ) ، كما عكست الصدامات التى دارت فى الانتخابات جانب من فورانه ، حيث رأينا صدامات دامية على أبواب صناديق الانتخابات بين جموع الناس الراغبين فى التصويت ، وقوى القمع والبلطجة التى حاولت منعها ، وليست بعيدة المشاهد التى نقلتها الصحف والفضائيات من كل أنحاء مصر ، بما يعنى بوضوح – أن السياق الذى حكمت عبره البلاد – فى الماضى – لن يكون من السهل استمراره فى المستقبل . غير أن الأزمة التى تعانى منها الحياة السياسية ( المدنية ) فى المجتمع المصرى ، ستؤثر سلبا ً ، بالحتم ، على مستقبل هذا الحراك ، فالواقع أن الاستقطاب الشديد الحادث بين كل من " السلطة " و " الأخوان " ، يحمل فى طياته أخطارا ً داهمة ، فى غياب " خيار ثالث " يمكن أن يجذب القطاعات المدنية العريضة فى المجتمع والأخوة الأقباط ، ويخرجها من عزلتها ، ويضيف قوتها إلى رصيد هذا الحراك بدلا ً من أن يخصمها منه ! ، وحتى لا يندفع هذا الاستقطاب – بالقوة الذاتية – إلى تخوم الصدام والفوضى . ولذلك : وهذا مهم للغاية ، فإن القوى المدنية ، والحداثية ، وجموع المثقفين والفئات والطبقات المفقودة التمثيل فى البرلمان القادم ، مدعوة لأن تفيق من غيبوبتها التى طالت ، وأن تخرج من شرنقتها ، لكى تتحرك بقوة دفاعا ً عن وجودها ومصالحها المهضومة ، والتى ستزداد انتهاكا ً فى المرحلة القادمة ، ولبناء قوة التوازن المفتقدة ، أو ضلع المثلث الناقص ! . إن الحاجة ماسّة الآن لبناء " كتلة تاريخية ثالثة " ، تقف فى المسافة بين فساد السلطة واستبدادها وتدميرها لطاقة الأمة وتبديدها لثروة الوطن ، من جانب ، وبين مخاوف تكريس الاحتشاد السياسى على أساس الدين ، ومخاطر تغييب قيم المواطنة والتسامح والتحديث التى تلوح بوادرها ، حتى يعكس رغبة الأخوان المسلمين ، من جهة أخرى ، قوة ثالثة جديدة ، هى صوت " الأغلبية الصامتة " ، ومنبر من لا منبر لهم ، والمدافع عن قيم الرشد العقلى والانفتاح الإنسانى والسمو الأخلاقى ! . فما بين الاستبداد على أساس الانتماء لجهاز الاستغلال الرسمى الحاكم ، والاستقطاب على أساس الدين ، بما قد يهدد – موضوعيا ً – ما تم بنائه ، عبر عقود ، من مرتكزات الوعى الوطنى المصرى المعاصر ، لابد أن تنبنى " قوة ثالثة جديدة " ، هى فى الواقع المعبر الموضوعى عن أشواق نحو تسعين بالمائة من المصريين ، أداروا الظهر للعبة الانتخابات المكشوفة ، وخاصموا صندوق الانتخابات ( معتم أو شفاف ! ) ، لإدانتهم المسألة برمتها ، ولاعتبارها – من الأساس – أمرا ً لا يخصهم ، وهى مؤامرة معروفة التفاصيل لتزوير إرادتهم ، وتزييف أصواتهم . " الكتلة التاريخية ، المدنية ، الثالثة " ، هى أمل مصر فى مستقبل لا يتم فيه الانتخاب على أساس العقيدة ، أو التزوير بالبلطجة وصناديق المال الحرام ! ، وهى الدفاع المنطقى الوحيد عن انتماء شعب مصر إلى المستقبل ، لا عن إنجراره للبحث عن مخرج من واقعه الرديء فى متاهات الطرق ، وهى التأكيد المباشر على أن شعب مصر لايقاد من معدته أو عبر غرائزه الدنيا ، ولا يبيع مقوماته الحضارية لأى ادعاءات أو مغريات زائلة . لقد أزف وقت العمل ، وإذا استوعبت القوى المدنية الجديدة فى مصر ، " الدرس الفيتنامى " الذى كان من خلف انتصار هذا الشعب الفقير البسيط على أعتى إمبرياليات التاريخ ، ستنتصر مثله ، وهذا الدرس وصّفه " الجنرال جياب " ، أسطورة المقاومة الشعبية الفيتنامية ، بقوله : " يجب تكديس آلاف الانتصارات الصغيرة لتحويلها إلى نجاح ٍ كبير ، وهكذا نحول ميزان القوى تدريجيا ً ، بتحويل ضعفنا إلى قوة ! " . المهم أن يبدأ المجتمع فى الحركة ، وأن نبنى بحق ، حتى يستحق لنا المطالبة بنصيب فى صنع المستقبل . [email protected]