عندما قال «الأستاذ الإمام» قبل 90 عاما أن فن التصوير (رسما ونحتا) من «الشعر الذي يري ولا يسمع»، كما أن الشعر ضرب من «الرسم الذي يسمع ولا يري» كانت تحدوه آمال واسعة بفتح باب «نافذ» أمام عقول الأمة، يدفعها للانفتاح علي الفنون الحديثة، بعد أن قيدتها لسنوات مضت فتاوي الرجعية والجمود الثقافي. وحينما أردف الشيخ «محمد عبده» - وكان مفتيا للديار المصرية - علي فتواه بأنك (إذا نظرت إلي هذا «الشعر الساكت» فإنك تجد الحقيقة بادرة لك، تتمتع بها نفسك. كما يتلذذ بالنظر فيها حسك.. وإذا نزعت نفسك إلي تحقيق الاستعارة المصرحة في قولك: رأيت أسدا، تريد رجلا شجاعا.. فانظر إلي صورة «أبي الهول، تجد الأسد رجلا، أو الرجل أسدا)، لم يدر بخلده أن بعض «المتصابين» في الفقه سوف يطالبون بهدم وتشويه ما اعتبره حفظا للعلم في الحقيقة.. وأنهم سيكيلون الاتهامات لأصحاب الصنعة «المبدعين» ممن طالبنا بشكرهم (!) فبعد أيام من مطالبة عبدالمنعم الشحات، المتحدث باسم الدعوة السلفية، بتغطية وجوه التماثيل «الفرعونية» بالشمع لأنها تشبه الأصنام التي كانت موجودة بمكة في عصر الجاهلية(!)، إذ أن الحضارة الفرعونية - بحسب مزاعمه - حضارة «عفنة» (!)، كان أن أتحفنا أتباعه، بكارثتين جديدتين: الأولي عندما انهال بعضهم في مدينة المنصورة علي النسخة المقلدة لتمثال سنوسرت الثالث، المقامة أمام كوبري طلخا، وأسقطوها عن قاعدتها.. إلا أن هذا الأمر ضل الطريق بين اتهامات «الآثار» ومحاولات المحافظة ألا تترك له ذيولا (!). لكن لم تمض سوي أيام معدودات، إلا وقام منظمو أحد المؤتمرات الانتخابية لحزب النور «السلفي»، في ميدان الرأس السوداء بالإسكندرية، بتغطية تمثال إغريقي ضخم كان بوسط الميدان - يمثل «زيوس» وعرائس البحر - بالقماش، بزعم خروجه عن الآداب العامة (!).. ورغم أن الحزب أعلن بدأه في إجراء تحقيق حول الأمر، إلا أن هذا لا ينفي أن هذا التوجه جزء من قناعات قطاع لا بأس به من التيار السلفي. فتوي الشحات وما تبعها من تداعيات.. ليست إلا أول الجحيم، فيما نحسب.. إذ إن الخط علي استقامته، لن يؤدي إلا لتكرار مشهد تحطيم تمثالي بوذا الذي قامت به «طالبان» في أفغانستان.. لكننا لن نضع النظارة السوداء علي أعيننا، ونغض الطرف كما يفعل البعض.. فغيرتنا علي ديننا أشد وأبقي.. وانحيازنا لفريق الاستنارة - الذي قدناه ولا نزل نقوده - لن يتغير قيد أنملة، فلسنا في «جاهلية» جديدة ننتظر أن يخرجنا منها الشحات وأتباعه.. أو أبوإسحاق ورفاقه. فما يحدث، محاولة مكشوفة, لتأميم الساحة الدينية لحساب التيار السلفي وروافده.. حتي وان كان الثمن تحطيم الشخصية المصرية بكل أبعادها الحضارية.. واغتيال كل ما أنتجته من مفاهيم «وسطية». تلك الشخصية التي تتذوق الفن وتستوعبه، ومن ثمّ تنتجه، لا التي تعتبره رجسا من عمل الشيطان.. فهل آن لنا أن نتحرك لإعادة ضبط الميزان بعد أن نالته أيادي المخسرين(؟!)