بين السفر والترحال والبحث عن الذات ومواجهة الاحتلال بكل أشكاله وألوانه وجنسياته تتلاقى شخوص السير الذاتية فى رمضان هذا العام. «مصطفى مشرفة» «رجل من هذا الزمان»، «محمود درويش» «فى حضرة الغياب» و«صباح» «الشحرورة»، ورغم تاريخ هذه الشخصيات الثلاث المعروف ومدى تأثيرهم بإنجازاتهم سواء العلمية أو الأدبية أو الفنية فى المجتمع، إلا أن تناولهم دراميا عبر سيرهم الذاتية جاء مخيبا للآمال باستثناء «مشرفة» الذى بيض وجه الشاشة هذا العام وجعلها أكثر احتراما ورقيا فى ظل دراما المخدرات والعرى والتسطيح التى مازالت جاثمة فوق شاشاتنا. بالفعل كان «مشرفة» مشرفا، وكعادتها مخرجة الروائع «إنعام محمد على» تنكب على أعمالها بالشهور والسنين لتخرج أفضل ما عندها وما عندهم - أقصد الممثلين - وهو ما تؤكده روائعها السابقة «أم كلثوم» سيدة الغناء العربى وسيدة السير الذاتية التى لم يقدم مثلها حتى الآن باستثناء «الأيام» لأحمد زكى عن رائعة عميد الأدب العربى «د. طه حسين» وكذلك «قاسم أمين» التى أحيت به ذكرى رائد تحرير المرأة، وهاهى تطل علينا بواحد من أهم علماء العالم فى الذرة «د.على مصطفى مشرفة». «إنعام» راهنت فى تقديمها لهذه الشخصية وكعادتها على الممثل الأقرب للشخصية بصرف النظر عن نجوميته، فهى التى تصنع لهم النجومية ولا تريدهم أن يصنعوها لشخوصها، حدث ذلك مع «صابرين» فى «أم كلثوم» ومع «كمال أبورية» فى «قاسم أمين» وهاهو يتكرر مع «أحمد شاكر» فى «مشرفة». لعبت «إنعام» على التفاصيل الدقيقة للشخصيات وهو من أهم مميزاتها الإبداعية، فهى لا تترك صغيرة ولا كبيرة فى الشخصية إلا وتناولتها مهما كانت الخطوط الحمراء والمحاذير، فهى تريد أن تنقل الشخصية إلى المتلقى دما ولحما كما عاشت وعرفها الناس بأدق تفاصيلها الشكلية والمهنية، فى «على مصطفى مشرفة» تصل «إنعام» ب «أحمد شاكر» إلى أن يكون صورة طبق الأصل من «مشرفة».. حركاته، همساته، شكله، ملابسه، لدرجة أنها بحثت عن تفاصيل تكاد تكون غائبة عن الكثيرين لتطعيم العمل بها مثلما تطعم الخواتم بالأحجار الكريمة فوجدت عشق «مشرفة» للعزف على آلتى البيانو والكمان ولم يكن من السهل أن يتعامل مع تلك المفردات إلا فنان يتذوق الموسيقى، ومن هنا تأتى خبرة «إنعام» فى اختيار الممثل المناسب للدور المناسب، ناهيك عن الخلفية الثقافية والعلمية التى يجب أن يتمتع بها الممثل للتمكن من تجسيد الشخصية بشكل متقن، وهو ما وجدته فى «أحمد شاكر» الذى يجيد اللغة الإنجليزية بطلاقة، وهى إحدى الأدوات والمفردات المهمة فى شخصية «مشرفة» الذى تلقى تعاليمه فى «لندن» إلى جانب إجادة «شاكر» للعزف على البيانو والكمان بجانب المواصفات الشكلية والنفسية والفكرية والثقافية المشتركة بين الاثنين. النطق ببعض الكلمات الإنجليزية فى المسلسل كان ضروريا - كما تؤكده «إنعام محمد على» - لتوضيح الصورة للمتلقى أن هناك فصيلين، فصيل فى القاهرة هو الذى يتحدث العربية، وفصيل بلندن وهو الذى لابد أن يطعم حواره ببعض الكلمات الإنجليزية لفرض طبيعة المكان على المشاهد، وقد اختارت «إنعام» الجمل البسيطة التى يفهمها القاصى والدانى وإن كانت هناك مشكلة واجهتها فى الحلقات الأولى سيتم تصحيحها فى الحلقات المتبقية وهى وجود شريط للأحداث والرسائل أسفل الشاشة يعوق ظهور الترجمة بوضوح. المسلسل أظهر مدى العشق الذى يربط أسرة «مشرفة» ببعضها والتواصل فيما بينهم حتى الآن من خلال الأبناء والأحفاد، وقد ذكر المسلسل بعض التفاصيل الدقيقة عن هذه الحالة بأن الأسرة مازالت تدور فى دائرة الأسماء الأشهر فى العائلة لتتناقلها عبر الأبناء والأحفاد وهى أسماء «على»، «مصطفى»، «حسن»، «عطية»، ويتم تداولها حتى الآن فى نطاق الأسرة. المصداقية هو الوتر الذى تلعب عليه «إنعام» فى توصيل الشخصية كما يجب إلى المتلقى عبر الوسيط الذى يقوم بدوره الممثل حتى يصدق الناس بالفعل أنهم أمام الشخصية الحقيقية دما ولحما والأهم من كل ذلك روحا، فى الوقت الذى افتقدت فيه مسلسلات السير الذاتية الأخرى مثل «الشحرورة» و«فى حضرة الغياب» «الروح»، وإذا كان «مشرفة» بالفعل هو واجهة مشرفة لكل دراما هذا العام وتحديدا دراما السير الذاتية، فإن «الشحرورة» و«فى حضرة الغياب» هما مسلسلان للاستهلاك الجماهيرى ينقصهما الدراما، فلا الممثل المناسب فى المكان المناسب ولا حتى هناك اجتهاد حقيقى من الممثل للوصول إلى الحد الأقرب من طبيعة الشخصية التى يجسدها لا أداء ولا روحا، ففى «الشحرورة» نجد هناك انفصالا تاما بين «كارول سماحة» و«صباح»، فليست «كارول» «صباح» التى نعرفها والتى تتميز بالكاريزما والبريق والتفرد، أما مع «كارول» فتشعر أنك أمام كيان مظلم حتى لو كان يحاول أن يستمد ضوءه من نور الصبوحة. «كارول» تبدو بعمليات النفخ والشد والحشو والحقن التى أفسدت ملامح وجهها أنها كبيرة فى السن لم نصدقها وهى تلعب دور الصبوحة فى شبابها وفى قمة دلعها وتألقها وتأنقها، كذلك الشخصيات المحيطة مثل «أنور وجدى» و«إسماعيل يس» و«محمد عبدالوهاب» لم نصدقها جميعها. الفرق كبير بين الدراسة والاستسهال، أن ينكب فريق عمل مثل مسلسل «مشرفة» على العمل لشهور وسنين ليظهر فى أحسن صورة وبين فريق عمل يستسهل من باب «اخطف واجرى» وكأنها سبوبة مادية فقط بعيدا عن الفن والإبداع، كما هو حاصل فى «الشحرورة» و«فى حضرة الغياب» الذى نرى فيه القوة الناعمة هنا فى البطل وهو على عكس ما كانت تتمتع به شخصية «محمود درويش» المناضل بفكره ونبضه وشخصه ضد الاحتلال الصهيونى، صحيح أن «درويش» كان رقيق القلب والحس، لكن أبدا لم يكن ناعم الأقوال والأفعال بالصورة التى وجدنا عليها بطل المسلسل «فراس إبراهيم» الذى لم يأخذ من «درويش» سوى اسمه، أما أفعاله، حركاته، سكناته، حتى طريقة إلقائه بعيدة تماما عن «درويش» الأصل، هنا الممثل لم يجتهد وفرح بالبطولة المطلقة التى حشر نفسه فيها بفلوسه، بعد أن خاض تجربة غير مكتملة البطولة فى مسلسل «أسمهان»، الذى شارك فى إنتاجه وكان مسلسلا ناقص النمو ويحتاج إلى حضانة المبتسرين، فمسلسلات السير الذاتية تحتاج إلى تحضير وعمق فى التناول وكأنك تحضر لبحث علمى أو رسالة ماجستير أو دكتوراه، إنما الاستسهال لن يولد سوى سطحية فى العمل ونفور من المشاهد، ثم أين طبيعة هذه الشخوص الحقيقية فى دراماها أين نضال «درويش» بالكلمة والفعل ضد الاحتلال الصهيونى بالشكل الذى يليق بتاريخه، أين تفاصيل حياته فى الغربة والتى كتب فيها «تعبت من السفر الطويل حقائبى.. وتعبت من كثرة الترحال»، أين الصدق فى عاطفة «درويش» الحقيقية التى خرجت باهتة من بين ضلوع «فراس إبراهيم» فى الوقت الذى ظهرت فيه كل هذه التفاصيل بقوة فى «مشرفة» علاقة الحب القوية التى جمعت بين «مشرفة» و«ليز» التى تحدى أمامها العالم حتى والدها الإنجليزى الذى كان يميل إلى العنصرية ويقف ضد هذا الحب لكون طرفه الآخر مصريا من بلد يحتله أهل وطنه الإنجليز، ورغم ذلك كان دفاع «مشرفة» ضد الاحتلال هنا دفاعا فكريا وعقلانيا ومنطقيا وحكيما، وهو نفس الطبيعة التى كان ينتهجها «درويش»، لكن للأسف أجهضها المسلسل وأفقدها ملامحها. وتكرر نفس الشىء بالنسبة للشحرورة التى قدمت فنا أشبه بطلقات الرصاص فى مواجهة العدو الصهيونى الذى احتل بلادها فى لبنان، ولم يلتفت مسلسلها إلا لمناطق الحب والعاطفة وتعدد الزواج وبشكل سطحى غير متعمق ولم يتوافر له عامل الوقت للإتقان، فى النهاية لن يثبت فى الذاكرة وفى القلب سوى العمل الذى كان صادقا فصدقته الجماهير وستذهب الأعمال السطحية الرديئة إلى غياهب النسيان فى الوقت الذى تظل فيه شخوص السير الذاتية التي سطرت تاريخها بجهد وعرق وإنجازات باقية بقاء التاريخ.