أحيانا يجد المرء نفسه مضطرا إلي تكرار ما هو معروف وبديهي ليواجه ما هو عبثي وغير معقول.. ومما أكرره هنا أن السيرة الذاتية هي ما يكتبها صاحبها عن حياته، مثل "أيام" طه حسين. وعليه فإن طوفان المسلسلات الذي يغرق رموزنا السياسية والثقافية والفنية - ويغرقنا معها - بدعوي تقديم مشوارها علي الشاشة، لا يصح تسميته "أعمال سير ذاتية"، لأنه ليس من وضع أصحاب هذه السير، حتي وإن كان بموافقتهم، أي أننا - في رمضان الحالي وفي غيره - إزاء مسلسلات سير "غير ذاتية"، تشهد اعتداء تجار الفيديو علي تاريخ المشاهير والشخصيات المهمة. مما أكرره أيضا، أن المرء ليس مضطرا أن يأكل البيضة كلها لكي يدرك أنها فاسدة. وعليه فإنني لست مضطرا أن أشاهد الحلقات الكاملة لهذه النوعية من المسلسلات هذا العام لكي أدرك أنها رديئة، وتعليقي عليها بعد مشاهدة عدة حلقات، ليس فيه أي قدر من التجني. شهد رمضان الحالي تجرؤ صناع المسلسل السوري "في حضرة الغياب"، من إنتاج وبطولة فراس إبراهيم وتشاركه الممثلة سلاف فواخرجي عن نص للسوري حسن يوسف وإخراج نجدت أنزور، علي رمز ثقافي ووطني بحجم وقيمة الشاعر الكبير محمود درويش.. ولا أعرف من أين جاء البعض بهذه الجرأة، فالمرء يتحسب قبل مجرد قراءة درويش، فما بالك باستباحة حياته وخصوصياته. بيان المؤسسة مؤسسة محمود درويش لم تنتظر نهاية الحلقات مثلي، وأصدرت بيانا تعقيبا علي المسلسل قال: يعرض علي شاشات بعض الفضائيات العربية مسلسل " في حضرة الغياب"، الذي يتناول ، كما أعلن القائمون عليه، سيرة وحياة الراحل الكبير الشاعر محمود درويش. ويهم مؤسسة محمود درويش أن تؤكد أنه لا علاقة لها بهذا العمل أو بالقائمين عليه، وأنها تري فيه إساءة للشاعر وصورته وحضوره في الوعي الثقافي العربي والإنساني، وهو الموقف الذي قامت المؤسسة بإبلاغه بوضوح للقائمين علي إنتاج المسلسل، والذي تعود لتأكيده عبر دعوتها إلي وقف عرض حلقات العمل. أؤيد تماما ما جاء في البيان من أن غياب القوانين الخاصة بحقوق الملكية الفكرية، وضعف العمل بالتشريعات المتعلقة بالحقوق الثقافية، والارتجال والخفة في تناول حياة ومنجز أعلام الفكر والثقافة في منطقتنا، هو الذي سمح بتجرؤ البعض علي إرث الراحل الكبير، سواء عبر انتحال حضوره علي الشاشة أو من خلال الالتفاف علي اسمه وموقعه بالوسائل المكتوبة والمرئية والمسموعة، وهو ما قالت مؤسسة درويش إنها ستعمل علي التصدي له في إطار القوانين والأعراف. قد أثار عرض المسلسل جدلا وغضبا واستنكارا واستهزاء إلكترونيا كبيرا من قبل العديد من المشاهدين العرب الذين طالبوا بوقف عرضه ووصفوه بالمهزلة عبر صفحاتهم علي الفيس بوك.. ولا تزال حملاتهم مستمرة بهدف جمع أكبر عدد من التوقيعات لوقف عرضه علي القنوات الفضائية لإساءته الكبيرة وعلي أكثر من مستوي لدرويش. عمل سطحي حملت الصفحات العديد من الأسماء التي تطالب بالحفاظ علي صورة الشاعر، مثل "المشاهد العربي يريد الاحتفاظ بصورة محمود درويش"، و"معا لإيقاف عرض مسلسل في حضرة الغياب"، وغيرها الكثير. وتحمس عشرات المثقفين الفلسطينيين للتوقيع علي عريضة للمطالبة بوقف المسلسل، قالوا فيها: "نحن الموقعين أدناه من مثقفين ومواطنين وقراء وناشطين في المجالين الأدبي والثقافي في فلسطين والعالم العربي والعالم، ندعو إلي وقف عرض مهزلة مسلسل فراس إبراهيم، ذي الطابع التجاري الذي يسيء بشكل مخز إلي صورة العظيم درويش وحقيقة حياته، ونبدي استغرابنا الغاضب من تورط تليفزيون فلسطين في عرض هذا المسلسل، الذي تم التحذير من أهدافه ودوافعه التجارية منذ أشهر عديدة، كما ندين تورط الفنان مارسيل خليفة والكاتب حسن يوسف والمخرج نجدت أنزور في هذا العمل السطحي المقيت". كما عاني المسلسل أزمة تسويق كبيرة بسبب مساندة معظم صناعه للنظام السوري الحاكم ومعاداتهم الثورة الشعبية السورية، وأصدر مخرجه أنزور بيانا قال فيه: إنّ هناك قراراً عربياً غير معلن يقضي بمقاطعة الدراما السورية، أو شرائها بأقل الأسعار. وسخر من ذلك بقوله: "صرنا بحاجة إلي خريطة طريق كي نصل إلي المحطات العربية"، معتبراً أنّ الفن لا ينفصل عن السياسة، وقد "سيس الفن من قبل تلك المحطات بما يفقده الكثير من القيم الأخلاقية والإنسانية"، علي حد قوله. مشكلات وقضايا أما مسلسل "الشحرورة"، الذي يتناول حياة الكبيرة صباح، بموافقتها كما قيل، فهو كارثة فنية بكل المقاييس، تعيد إلي الأذهان الجريمة التي ارتكبها تجار الفيديو في حق سعاد حسني قبل سنوات، بدعوي تقديم قصة حياتها في مسلسل حمل اسم "السندريلا"، في حين كان من المفترض أن يسمي "الكابوس". المسلسل، وهو من بطولة كارول سماحة وتأليف فداء الشندويلي وإخراج أحمد شفيق، شديد الضعف والخفة والتفكك، ويبدو كوميديا مثل أعمال الشندويلي السابقة، خاصة في أداء إيهاب فهمي شخصية فريد الأطرش بهذه الطريقة الكاريكاتيرية البلهاء.. أما سماحة، فقد ابتعدت تماما عن روح - فضلا عن شكل - صباح، وكأنها تقدم شخصية أخري غير تلك التي عرفها العرب علي مدي عشرات السنين وارتبطوا بها وحفظوا عن ظهر قلب كل حركاتها وسكناتها. بدأ المسلسل مواجهة المشكلات قبل حتي عرضه، حيث أعلنت المطربة الكبيرة فيروز عن تحريرها دعوي قضائية أمام قاضي الأمور المستعجلة في بيروت ضد شركة "صباح إخوان" تطالب فيها بوقف عرض المسلسل بسبب عدم رغبتها في تعرضه لشخصيتها أو شخصية زوجها الراحل عاصي الرحباني، والمطالبة بحذف المشاهد التي تشير إلي شخصيتهما.. وقالت ريما الرحباني، ابنة فيروز: إنها أجرت عدة اتصالات مع الصباح إخوان لتطلب عدم التطرق إلي شخصيتي والديها، وتم التأكيد لها علي ذلك. وأشارت إلي أنها كانت دائما تقرأ في المجلات والصحف أن المسلسل سيتناول والديها (فيروز وعاصي) لكن بأسماء وهمية.. وما زالت الدعوي أمام قاضي الأمور المستعجلة لإيقاف العمل إذا لم يتم حذف الشخصيتين بشكل نهائي من العمل. تهديد أسري المفاجأة الحقيقية أن صباح نفسها قررت حذف أي مشهد يذكر سيرة ابنتها هويدا في المسلسل، وذلك بعد أن تلقت منها تهديدا باللجوء للقضاء لو أن أحدا جسد شخصيتها أو تناول أسرار حياتها الشخصية. أكدت صباح في مكالمة هاتفية لإذاعة صوت لبنان قبيل عرض المسلسل أنه لن يتضمن أي فضائح، ولن يكون وسيلة لتشويه سيرة أحد، سواء كان حيا أو ميتا، وقالت إن الغرض منه استعراض قصة حياتها وما اشتملت عليه من أحداث فنية وسياسية واجتماعية عاصرتها وأثرت وتأثرت بها. وربما لم تكن المطربة الكبيرة تعرف - وهي تدلي بهذه التصريحات - أن المسلسل لن يكون وسيلة لتشويه أحد سواها، بدليل ما تردد من أنباء بعد بدء العرض حول عدم رضاها عن العمل، وتأكيدها أنه يعج بالأخطاء التاريخية والفنية. أما مسلسل "رجل من هذا الزمان"، الذي يتناول حياة العالم المصري الكبير الراحل مصطفي مشرفة، من بطولة أحمد شاكر وإخراج إنعام محمد علي، فلم تتسن لي رؤية أي من حلقاته، وبالتالي لا يمكنني الحكم عليه، وإن كانت مخرجته لم تقدم منذ مسلسل السيرة الآخر "أم كلثوم" ما يرقي إلي مستواه.