أخاف أن يداهمنى مرض الزهايمر على طريقة عادل إمام.. لذلك أسرع الآن بتسجيل ملاحظاتى الفنية على بعض ما شاهدته خلال الأيام الماضية، والتى غطت عليها أحداث انتخابات مجلس الشعب. انتهت الانتخابات بحلوها ومرها.. وبقيت تلك الأعمال الفنية تتحدى النسيان. * ما بينى وبين الفنان عادل إمام، صداقة واحترام متبادل على مدي سنين طويلة، يدهشنى دائما بقدرته على انتزاع الضحكة الصافية مهما تعددت مشاهداتى لمسرحياته وأفلامه.. وكأننى أراه وأسمعه لأول مرة.. فهو فنان ذكى ولماح ومثقف واعٍ بكل ما يدور حوله، يعرف متى وكيف يطلق سهامه الكوميدية. وتشعر من فرط صدقه فى الأداء أنه يعبر عنى وعنك.. ومن هنا استشعرت بفداحة أن يصاب الإنسان بالزهايمر.. أن تنسى أقرب الناس إليك.. تنسى الأحداث والأسماء والأيام.. تنسى من أنت!.. وقد تقمص عادل إمام هذه الحالة ببراعة شديدة تقنعك فعلا أن هذا المرض قد أصابه.. ولكنك تكتشف أنه دبر هذه الخدعة حتى يكشف مؤامرة أبنائه للاستيلاء على ثروته.. ليبدأ بعدها فى خطة المواجهة وعقاب الأبناء «فتحى عبدالوهاب وأحمد رزق، وكلاهما لعبا دوريهما بكفاءة عالية وهو التحدى الذى يفرضه الوقوف أمام نجم كبير فى حجم عادل إمام». وهو نفس التحدى الذى واجه كل صناع هذا الفيلم بدءا من الإنتاج السخى وفنان الديكور صلاح مرعى وتصوير د. محسن أحمد وموسيقى عمرو خيرت.. كل هذه العناصر الرائعة اجتمعت تحت تصرف المخرج عمرو عرفة.. ولم يخذل أحدا.. وإنما قدم فيلما لا ينسى.. يكفى ذلك المشهد الذى جمع بين عادل إمام وسعيد صالح فى مصحة العلاج والحوار بين صديقين فرقهما الزمن والمرض.. مشهد شديد العذوبة سيظل فى ذاكرة السينما لسنوات طويلة. لقد نجح المؤلف كاتب السيناريو «نادر صلاح الدين» فى اختراق منطقة جديدة من الإبداع السينمائى لعالم مرضى الزهايمر.. وكان من الممكن أن يكون الفيلم أكثر اقترابا من هذا العالم لو ركز فى الجانب الإنسانى دون الدخول فى متاهات الميراث وعقوق الأبناء. ورغم ذلك يحسب لهذا الفيلم أنه أعاد لنا عادل إمام فى دور قوى يتصدر به قائمة أفلامه.. كما يحسب لعادل إمام هذا الوفاء فى التعامل مع أصدقائه الفنانين.. وبخلاف هذا اللقاء الساحر مع الفنان سعيد صالح.. هناك أيضا تجديد اللقاء مع الفنان أحمد راتب ولطفى لبيب والممثل القدير هناء عبدالفتاح والفنانة نيللى كريم.. وكل ممثلى الأدوار الثانوية فى الفيلم الذين يجمعهم عادل إمام حوله فى حب فيقدمون أفضل ما عندهم من فن. *أحمد حلمى فنان رائع له أسلوبه الخاص فى الكوميديا.. وطالما ضحكت معه فى أفلامه السابقة حتى فيلمه الأخير «عسل أسود» الذى احتفلت به فى مقالة حب نشرتها هنا فى «صباح الخير».. وقد توقعت أن يكون فيلمه الجديد «بلبل حيران» إضافة لخطه البيانى الصاعد.. وظللت فى دار العرض أنتظر أن يتحقق هذا التوقع.. ولكن حدث العكس.. تراجع الخط البيانى. وخفتت الضحكات.. وساد الوجوم على الوجوه.. وانطلق السؤال : ليه كده يا أحمد يا حلمى؟ ما إنت كنت ماشى كويس.. إيه اللى لعب فى دماغك.. لتختار لفيلمك الجديد موضوعا لا يصلح إلا كرسالة فى بريد العشاق الحيارى بالصحف.. ما الذى يهمنا نحن من حيرتك ولخبطتك بين فتاتين والثالثة تجلس بجوارك تستمع لك بحكم عملها كممرضة.. الموضوع هنا لا يهمنا ولا يحرك مشاعرنا.. وأنت تخرج من فلاش باك لتدخل فى آخر وجسمك كله ملفوف بالجبس والشاش لنسمع منك بعض الإيفيهات اللفظية.. ليست هذه سينما.. فالسينما حركة وموقف وصراع درامى.. وأنت اخترتها إذاعة.. رغم محاولات المخرج خالد مرعى فى تشكيل الصورة السينمائية.. ولكنها كانت مجرد تشكيل بدون فاعلية.. خسارة! * مفاجأة فيلم «ابن القنصل» فى تنوع التمثيل والخروج من النمط التقليدى.. فنحن أمام ثلاثة ممثلين فى أدوار جديدة تماما.. أحمد السقا نصاب وملتحٍ.. خالد صالح مسجون سابق ونصاب ومراهق.. غادة عادل فتاة ليل عن طريق الإنترنت. وقد تخلى أحمد السقا عن مشاهد المطاردات والأكشن، وتخلى خالد صالح عن نبرة صوته المعروفة واختار نبرة أخرى تناسب تاريخه الإجرامى فى التزوير.. وتخلت غادة عادل عن أناقتها وعذوبتها فى الأداء وتحولت إلى امرأة شرشوحة. هذه التحولات فى المظهر والسلوك وظفها المخرج عمرو عرفة فى سيناريو شديد الإحكام لأيمن بهجت قمر عن عالم النصابين وتصوير رائع للفنان د. محسن أحمد لأماكن جديدة علي الشاشة من الإسكندرية. يتزامن عرض هذا الفيلم مع فيلم «زهايمر» لعادل إمام وكلا الفيلمين من إخراج عمرو عرفة وتصوير محسن أحمد.. صدفة تؤكد صدق الموهبة الفنية للمخرج والمصور. ولكن ما يؤخذ على فيلم «ابن القنصل».. هو تعدد النهايات مما يربك المتفرج.. فنحن أمام ثلاث نهايات مختلفة، كل واحدة منها يكفى لغلق ملف الفيلم، ورغم هذا التشتت، يحتفظ فيلم «ابن القنصل» بمستوى فنى مرتفع وبأداء رائع للفنان خالد صالح والفنانة غادة عادل.. أما أحمد السقا فيكفيه شرف التحول من أفلام الأكشن إلى الأدوار الإنسانية. *فوز الفنانة سوسن بدر بجائزة أحسن ممثلة فى مهرجان القاهرة السينمائى، هى جائزة تستحقها عن جدارة ليس بسبب دورها فى فيلم «شوق» الذى فاز بالجائزة الكبرى للمهرجان، ولكن لأنها فنانة تعرف كيف تختار أدوارها.. وكيف تستعد لها.. وكيف تبذل أقصى طاقاتها الإبداعية لتجسيد هذا الدور.. إنها فنانة تعرف قيمة الفن وتعرف كيف تحترم جمهورها.. ولهذا يبادلها هذا الجمهور بكل الحب والاحترام ويرصد لها محطات متعددة، لكنها غير متشابهة، ففى كل محطة هى متجددة ولها بصمة مختلفة. إنها نموذج رائع لموهبة وصدق الفنان. * هذا التنوع الفنى الذى شهدته الساحة المصرية خلال الأيام القليلة الماضية هو الذى جدد ثقتنا فى أن الفن الصادق هو الذى يعطينا الحماية من أفكار وأساليب التخلف وهو الذى يجدد حواراتنا ويخلق لنا مجالات أرحب للرؤية. وصدقونى أن الفن هو أحسن علاج.