يبدو أن النصف الفارغ من كوب التقدم التكنولوجى السريع، أغلى ثمناً من نصفه الممتلئ.. فمع اتساع دائرة المعارف الإنسانية والتقدم المذهل فى الاتصالات والإعلام، يكتسب أطفالنا، قدراً هائلاً من المعارف فى سن صغيرة نسبياً، هذه المعارف لم يكن ليكتسبها آباؤهم إلا بعد خبرات طويلة _ بعضها كان مؤلماً ومعقداً - وفى بعض الأجيال السابقة كان المرء يستهلك معظم شبابه للوقوف على بعض هذه الخبرات التى يكتسبها أطفالنا اليوم من خلال ساعات محدودة أمام شاشات التليفزيون.. وهكذا يفقد أطفالنا مع الوقت تلك السذاجة التى نتعارف على تسميتها.. براءة الطفولة! وبالقدر نفسه، ينضج المراهقون بسرعة أكبر مع انتشار استخدام الإنترنت، وصناعة البرمجيات، الأمر الذى يربط مصائرهم بالواقع الافتراضى الرقمى أكثر من ارتباطهم بذويهم ومعارفهم، فيزدادون عزلة عن واقعهم الحقيقى، وإن تحققت نجاحات بل وثروات لابأس بها لمراهقين اختاروا احتراف صناعة المعلومات التى لا ترتبط بسن معينة، ولا مؤهل بعينه فى العالم كله، سوى.. حب التعلم!! النتيجة: أطفال كبروا قبل الأوان، يمتلكون خبرات إدراكية تمكنهم من التفاعل بندية مع الكبار، والاستقلال برؤيتهم عنهم، ومراهقون ناضجون بسرعة كبيرة، للدرجة التى تمكنهم من الاستقلال بحركتهم فى الحياة، وارتقاء سلم مغاير للصعود الاجتماعى، أشبه بالأسانسير الذى يصعد بسرعة الصاروخ والذى يختلف تماماً عن السلم الذى جاهد آباؤهم للارتقاء من خلاله.. درجة بدرجة! والاختلاف بين الطريقين فى النمو والارتقاء، هو نفسه الفارق بين إنضاج الطعام على الموقد، وإنضاجه داخل فرن الميكروويف: فى الأولى ينضج الطعام ببطء مع انتقال الحرارة من نقطة إلى أخرى أعمق منها.. أما الأجيال التى يتم طهيها فى الميكروويف فتصدمها الحرارة الفجائية مرة واحدة فتنضج فى دقيقتين أو أقل.. ومع أن السرعة مكسب كبير للوقت إلا أن ذلك يأتى دائماً على حساب القيمة التى تضاف إلى أجسادنا من الطعام سريع الطهى، بخلاف أن الميكروويف يجعل من المستحيل إضافة شىء من التوابل أثناء الطهى يميز ما تقدمه أيدينا عن أيدى غيرنا.. الأمر الذى يجعل الحرارة العالية السريعة هى سيدة الموقف، لا نحن، أصحاب البيت والمائدة والطعام والمعدة التى ستهضمه. الفاتورة بالفعل باهظة، فاتصالنا بالعالم الخارجى من خلال الفضائيات والإنترنت جعل العالم قرية صغيرة تتحد فيها الطموحات وينتفع فيها الجميع بالإنجازات، لكن ذلك فيما يبدو جاء على حساب تواصل الأجيال، ذلك أن فقدان الأطفال للبراءة الساذجة وانصراف المراهقين إلى العالم الرقمى يجعلهم أبعد ما يكونون عن التفاعل مع خبراتنا وطموحاتنا فيهم، وربما أبعدهم هذا تماماً عن طريقتنا فى إدراك العالم، أو يجعل لهم إدراكاً رقمياً يستمد مادته من الأفلام التى تبثها الفضائيات والمعلومات التى تحويها صفحات الإنترنت.. إدراك قد ينتزعهم مما نريده نحن لهم.. إلى أحضان ما تريده لهم تكنولوجيا الشاشات الرقمية. نحن نريدهم امتدادا يضيف لثقافتنا وقيمنا وتراثنا الحضارى فى عالم يتحول بسرعة شديدة إلى صهر التميز والخصوصية فى بوتقة ثقافة موحدة تهيمن عليها مبادئ وقيم وأفكار وسلوكيات أولئك الذين ينتجون التكنولوجيا.. ولأننا نحن الذين احتفينا بإرادتنا بالتقدم التكنولوجى وكذلك تلك السرعة التى استدعيناه بها لحياتنا، كنا نترك له الكلمة العليا فى الدار كاملة.. فينضج صغارنا بسرعة نيران الميكروويف، ويجعل من مراهقينا رجالاً يتصدون للمسئولية ويتركنا نحن الجيل الأكبر فى المؤخرة.. بوصفنا كائنات تنتمى إلى العالم القديم، وهكذا يظهر النصف الفارغ من كوب التقدم التكنولوجى تحت النصف الممتلئ.. كفقاعة تتهدد بالانفجار فى وجوهنا إذا ما حاولنا تحريك المحتوى بالطريقة التى تحقق لنا إرادتنا نحن!! والسؤال الآن هل نحن على أعتاب صراع أجيال بسبب الإنترنت والفضائيات؟ والإجابة.. أحاول رصدها فى الأسبوع القادم إذا أراد الله.. انتظرونى.