الموسيقى مثل كل معنى عميق غزير فى حياتنا، يصعب أن نجد لها تعريفاً يرضى الجميع.. مثلها مثل مفهوم الخير أو الإنسانية أو الشعر.. الموسيقى شعر استبدلت فيه الكلمات بالأنغام، من هنا فإنها تتسلل إلى الروح. إلى الجوهر منا، هى عند العبقرى المؤلف الموسيقى بتهوفن إلهام يسمو على كل الحكمة والفلسفة. إنها التفكير بالصوت النقى الخالص.. ويقول كاتبنا الكبير توفيق الحكيم.. بدون موسيقى تصبح الحياة خطأ.. "من زمان سحيق والإنسان يعزف الموسيقى ويبحث كى يصنع لنفسه آلة تعزفها.. منذ الإنسان البدائى وكانت مصاحبة للبشر فى كل الحضارات، وتوجد فى كل ثقافة وترتبط بها فى المجتمعات". هذه الكلمات عن الموسيقى من مقال رائع كتبه العالم.. الفنان الراحل د. أحمد مستجير ضمن مقالاته "فى بحور العلم".. وقد تحدث فى هذا المقال عن التفسير العلمى لكيفية الاستماع إلى الموسيقى. عن المناطق السمعية فى المخ الإنسانى وتصنيفها للأصوات.. عن إدراك طبقة النغم وتأثير الجينات الوراثية فى هذا المجال من الفن. "الموسيقى تلعب دوراً خطيراً فى تعزيز الروابط الاجتماعية، فهى تقوى الروابط على المستوى الفردى بين الأم ووليدها.. وعلى مستوى الجماعة فتبعد الناس عن التشاجر والتقاتل فيما بينهم.. ثم إن الغناء الجماعى كان يشجع الصائدين عند الصيد، الأمر الذى مازلنا نشهده عند قيام مجموعة من العمال بعمل شاق.. والموسيقى تعزز الروابط بين الأفراد فى مجتمعاتنا المعاصرة بعد أن تكاثرت أعدادنا وأصبحت المداعبة بين الجنسين أمراً صعباً.. إنها تعزز بقاء البشر لأنها تعزز الغزل.. أصبحت سلوكاً للغزل يفسر افتتان البشر بأغانى الحب.. وقد كتب "داروين" فى القرن التاسع عشر "إن أسلاف الإنسان ذكوراً وإناثاً قد حاولوا قبل أن يكتسبوا القدرة على التعبير عن الحب باللغة أن يجذب بعضهم بعضا بالأنغام والإيقاع". هل الموسيقى صفة بيولوجية؟! لأن علم الجينات الوراثية كان تخصص د. أحمد مستجير فقد قال: "فى الموسيقى سر بيولوجى على ما يبدو آسر. لماذا نحب الموسيقى؟ لماذا تنتزع منا العواطف لماذا تنتشر هكذا فى المجتمعات؟ إلا أن أمر بيولوجية الموسيقى لن يستقر تماماً حتى يتضح بالتجربة.. أو صفة ما موسيقية لها أساس فى مادتنا الوراثية.. ومع ذلك توجد شواهد كثيرة توحى بأن الموسيقى جزء من بيولوجيا الإنسان! كل فرد منا له القدرة على أن يصنع الموسيقى بصوته أو.. بآلة بغض النظر عن موهبته أو مهارته". يتحدث د. مستجير عن الطفل فى عمر شهرين يلتفت برأسه نحو الصوت الجميل ويشيح بوجهه عن الصوت المنفر، وقد أثبتت الأبحاث أن الأطفال يمتلكون القدرة الموسيقية تماماً مثل الكبار، يحسون اللحن ويتذكرونه ويستخدمون فى ذلك استراتيجية البالغين فى الاستماع فيهتمون بالعلاقات بين طبقات الصوت قبل النغمات ذاتها، ويكتشفون التغيرات فى الإيقاع. الأطفال قبل سن المدرسة ينهمكون فى الغناء أثناء اللعب وفى مقدورهم أن يؤلفوا أغانيهم الخاصة ويؤدوها.. ونشهد حالات تجرى فيها الموسيقى فى العائلة نسمع عن أطفال فى عمر الثلاث سنوات يعزفون على آلة موسيقية ويفهمون الموسيقى الكلاسيكية.. وقد ضرب مثلاً بالنابغة الموسيقى "موزار" أو "موتسارت" الذى ألف الألحان الموسيقية وهو لم يبلغ العاشرة من عمره.. وبقيت موسيقاه من زمن بعيد إلى الآن. "مالك جندلى" ومؤلفاته الفريدة هو عازف بيانو ومؤلف موسيقى كلاسيك سورى الأصل وفى عالمنا الجديد الآن.. تلقى علوم الموسيقى فى الرابعة من عمره تعلم العزف على البيانو، وعزف على خشبة مسرح فى سوريا وهو فى الثامنة من عمره، ولأنه من عائلة ذات اهتمام وولع بالموسيقى الكلاسيكية، فقد شجعوه على إتمام مسيرته الفنية بالمعهد العالى للموسيقى بمدينة دمشق.. وفى عام 1995 نال منحة دراسية لإتمام دراسته فى مدرسة "نورث كارولينا" بالولايات المتحدةالأمريكية.. بعد سنتين من الدراسة هناك حصل على جائزة أحسن عازف بيانو وبعدها حصل على جائزة أولى فى التأليف الموسيقى وأيضاً التوزيع الموسيقى من مؤسسة ولاية "أتلانتا" للمؤلفين الموسيقيين.. تابع "مالك جندلى" دراسته فى التأليف والتوزيع الموسيقى وحصل على شهادة الماجستير عام 2004 وهو الآن يحضر للدكتوراه فى الموسيقى من جامعة "جورجيا" الأمريكية.. وهو يقترب من عمر الأربعين.. عمر النضوج الفنى.. جاء "مالك" إلى القاهرة ليشترك فى العيد الواحد والعشرين لأوبرا القاهرة.. ليعزف مقطوعات موسيقية من مؤلفاته الفريدة فى مزج المقامات الموسيقية الشرقية بطريقة أكاديمية مع الموسيقى الكلاسيكية.. واستمعنا إلى عازف بيانو ممتاز بمصاحبة أوركسترا القاهرة السيمفونى، من نغمات حالمة إلى نغمات من أصل عربى قديم.. كان حقيقة فاكهة الحفل الحلوة.. و.. ياريت.. يستضيفه مسرح أوبرا القاهرة مرة أخرى ليقدم حفلا من مؤلفاته ومؤلفات عازفى البيانو العظام مع أوركسترا القاهرة السيمفونى.. فقد قدم "مالك" مؤلفاته الموسيقية الفريدة برفقة العديد من الفرق الموسيقية فى أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية. ما الذى يضيع حلاوة الموسيقى؟! أعتقد أنه الميكروفون.. و.. عن تجربة فى ذلك الحفل الموسيقى فى المسرح الكبير لدار الأوبرا.. ففى الفقرة المقدمة من الفرقة القومية العربية للموسيقى بقيادة المايسترو "سليم سحاب" ذهلت وخفت من الميكروفونات الكثيرة أمام الآلات الموسيقية لفرقة العازفين.. لماذا؟!.. وهذا المسرح الكبير على حسب علمى مجهز تماماً للاستماع إلى موسيقى العازفين على الآلات والغناء بدون ميكروفونات أو بمصاحبة القليل منها.. وقد شاهدت الكثير من الحفلات الموسيقية والأوبرالية فى هذا المسرح باستمتاع بدون إزعاج الكثير منها.. وقد ضاع الصوت الجميل للمطربة "آمال ماهر" بسبب الميكروفون الذى اقتربت منه أكثر من اللازم!!.. لقد تحملنا صوت الموسيقى المرتفع فى مشهد من باليه حديث لفرقة أوبرا القاهرة لأنه كان من شريط تسجيل.. لكن ميكروفونات مع آلات موسيقية للموسيقى العربية بهذه الكمية!!.. لقد صُمَّت أذنى لبعض الوقت لأنى لم أحضر معى الشمع الذى أضعه فيها عندما أذهب إلى صالة أفراح!! فقد كنت ذاهبة إلى دار الأوبرا.. الموسيقى تشفى.. أعود إلى مقال د. أحمد مستجير عن الموسيقى.. كتب: "الموسيقى" لها قدرة على تحسين الصحة والذاكرة والانتباه والإبداع وتخفيف الاكتئاب والقلق، وقد عرف من زمن أن الغناء يشفى.. غناؤك وأنت تحت الدش تأخذ حماماً يشفى مخك إذا كنت تغنى أو تدندن فأنت فى حالة نفسية طيبة.. الأغنية بهجة من مباهج الحياة.. أيا كانت طريقة غنائك تنسيك متاعبك، وتحس معها بالراحة والأمان.. غن كلما استطعت وحيثما تمكنت.. إن شتى صور التعبير بالصوت تشفى.. الغناء الصغير. الترتيل.. الدندنة.. الهمهمة.. إلقاء الشعر.. الكلام الحلو.. وحتى قولك آااااااه".