يظل اسم نبيل العربى حاملا لضوء شديد التميز بالعلم والتجربة. وإذا كان الرجل قد قدم لنا موجزا لتجربته الدبلوماسية عبر سنوات طويلة من العمل القانونى المحترف فى كتابه «طابا - كامب دافيد - الجدار العازل». وقد احتفل لفيف راق من المثقفين مع دار الشروق بهذا الكتاب الذى يوجز دون خلل ثلاث حروب سياسية ودبلوماسية هائلة، والصفحات على دسامتها تحكى ببساطة كيف يكون العلم بالتفاصيل وإعادة ترتيب الحقائق سبيلا للوصول إلى التحرير الكامل للتراب المصرى عبر كامب دافيد مرة، وعبر مفاوضات طابا مرة ثانية، ثم تحقيق انتصار فلسطينى بعدم شرعية الجدار العازل الذى يقسم ما بقى من أرض فلسطين، وهو ما كان لنبيل العربى دور فيه بعد الصعود إلى مكانة القاضى بمحكمة العدل الدولية، وهى مكانة علمية وأدبية فائقة، فمنذ تأسيس محكمة العدل الدولية وهى تلعب دور قمة لا تعلوها قمة أخرى فى القانون الدولى. وشاءت الظروف أن ينظر القاضى نبيل العربى فى الجدار العازل الذى مزقت به إسرائيل أرض فلسطين المتبقية لإقامة الدولة المنشودة فوقها. وتمتزج تجربة الرجل بحكمته ويحكى ما يمكن أن يكون دستورا فى العمل الجماعى، لأن القرار الذى يأخذه شخص واحد مهما بلغت حنكته قد يكلف الوطن كثيرا. والأمثلة على ذلك فى تاريخنا القريب واضحة، فلولا ثقة الزعيم ناصر فى قيادة جيشه - التى ثبت زيفها - لما أغلق خليج العقبة الذى كان القشة التى سمحت لإسرائيل أن تبدأ عدوان 7691، ولولا حرص رجال الخارجية المصرية على أن تكون آثار زيارة السادات للقدس - وهى زيارة لم يتم فيها الترتيب الدبلوماسى اللائق - لولا حرص رجال الخارجية بعد تلك الزيارة لما كانت النتيجة هى الوصول إلى جلاء إسرائيل عن كل الأراضى المصرية. والجهد المبذول فى قضية طابا يكشف لنا أن العمل فى مجال العلاقات الدولية لا تنفع فيه فهلوة أو رعونة فى اتخاذ القرارات، فكل كلمة وكل خطوة لابد أن تكون مدروسة خصوصا إذا ما كان الخصم هو إسرائيل التى تتصرف كأنها سيدة الكون فى كل الأمور السياسية. وقبل أن نصل إلى الصفحات التى تتناول قضية الجدار العازل الذى بنته إسرائيل لتقسم أرض فلسطين المتبقية لإقامة دولة عليها، هنا سنرى إسرائيل وهى تمارس عنجهيتها ومحاولات التشويش على مصرى مشهود له بكفاءة نادرة هو نبيل العربى؛ حيث احتجت لدى محكمة العدل الدولية على تعيينه، لكنها لم تعط المحكمة أسبابا علمية ومهنية تحقق لها المأرب، فكانت النتيجة هى انتصار موهبة وكفاءة نبيل العربى على الأحجار التى حاولت إسرائيل وضعها فى طريق تعيينه قاضيا بمحكمة العدل الدولية وهو منصب رفيع تسعد به الدول التى تنال شرف اختيار واحد من أبنائها لتلك المهمة. ولنرى من بعد ذلك كيف أصدرت محكمة العدل الدولية رأيها الاستشارى بعدم أحقية إسرائيل فى إقامة الجدار العازل، وقد استطاعت بصيرة نبيل العربى أن تجعل هذا القرار له من الحجية القانونية ما يقرب به إلى أن يكون حكما قابلا للتنفيذ، ولكن ذلك يحتاج إلى توازن فى القوى المتصارعة. إن مذكرات نبيل العربى تكشف لنا مناطق القوة والضعف فى العمل السياسى والدبلوماسى. فإذا كانت الأعصاب من فولاذ وكان التخطيط يتميز بالدقة العلمية الرصينة، فلا مفر من الانتصار. شكرا نبيل العربى لا على تلك المذكرات فقط، ولكن على رحلة العمر التى أعطيت فيها أجيالا مصرية حقها فى أن تعيش فى بلد مستقل عن أى احتلال. وشكرا على قدراتك المؤمنة بأن الفرد وحده لا يصنع انتصارا، لأن كل انتصار هو ابن نسيج مكتمل من فريق متآزر.