منذ أسس الفاطميون الأزهر الشريف كان دائما منارة للعالم الإسلامي، ومنارة للإسلام المستنير المعتدل، ومصنعاً للرجال والقادة والأدباء وللحضارة، ليس فقط في العالم العربي ولكن علي امتداد العالم الإسلامي كله، الآن تغيرت الصورة: تواري الأزهر في جانب قصي من المشهد بينما تصدرت تيارات أخري عديدة: سلفية والنسخة المطورة لها المسماة الوهابية، الإخوان المسلمون، الجماعة الإسلامية.. إلخ ملأت الساحة كلها.. كيف حدث ذلك؟ وكيف يستعيد الأزهر دوره الديني والحضاري؟ لقد استثمرت الوهابية تحديداً أموال النفط في خلق جماعات في كل دول العالم مؤيدة لها ولفكرها المتشدد عن طريق افتتاح المدارس الدينية التي تدرس فكرها الوهابي المتشدد بعدما درسوا وحللوا كيف تمكن الخوميني من إسقاط شاه إيران ببضعة شرائط دينية كانت توزع علي طلاب المدارس والجامعات في غفلة من الشاه.. نفس الشيء حدث عندنا في مصر علي يد الجماعات الإسلامية والمدارس الإسلامية التي انتشرت منذ السبعينيات وبرؤوس أموال وهابية بغرض القضاء علي فكر عبدالناصر وكلنا يعرف باقي القصة بعدما اشتد عودها وتم اغتيال الرئيس السادات وتكفير الشعب المصري كله بما فيه الأزهر الشريف ومطالبتها بالحكم وفقا لمفوهمها الديني الوهابي المتشدد.. وسنجد أنه من الفلبين شرقا إلي الولاياتالمتحدة غربا أغلب الجماعات الإسلامية المتشددة كانوا طلاب مدارس وهابية تنفق عليها السعودية بسخاء وهم من يتحكمون الآن في الشارع الإسلامي بما فيه مصر بيد من حديد سواء باستخدام الإنترنت أو القنابل سلاحا ضد كل من يعارض فقهها.. في حين أن الأزهر الشريف يقف متفرجا لأن شيوخه مشغولون في التسابق علي برامج القنوات الفضائية لإصدار الفتاوي!! أعتقد ببساطة أن الأزهر فقد كل مصداقية كان يتمتّع بها كمؤسسة دينية - «وإن لم يفقد بعض أفراده من الشيوخ الأجلاء وقارهم واحترام الناس لآرائهم» - راجع بشكل أساسي إلي بدء نظام التعيين لمفتي الجمهورية وشيخ الأزهر وبالتالي هدم النظام الذي كان قائماً قبل ذلك من استقلالية الأزهر عن النظام الحاكم منذ عهد عبدالناصر مع احترامي لهذا الرأي وصاحبه فنظام تعيين المفتي وشيخ الأزهر لم يحدث أيام عبدالناصر... نعم عبدالناصر حول الأزهر إلي جامعة دولية تدرس الدين والفقه لأبناء أفريقيا وآسيا «وهذا يدخل في نطاق الدعوة الإسلامية» وبالمجان إلا أنه لم يتدخل من قريب أو بعيد في تعيين الشيخ شلتوت والشيخ عبدالحليم محمود وهما علامات بارزة وغيرهما من الشيوخ الأفاضل.. ولم يفتِ أحد فيهما أبداً بفتوي لصالح الحاكم والبينة علي من يتقول بغير ذلك. من فعل ذلك وابتدعه هو السادات بعدما رفض شيوخ الأزهر قوانين زوجته في الأحوال الشخصية «قوانين جيهان» والتي سمحت للمطلقين بالعيش تحت سقف بيت واحد فقام بتغييرهم وتعيين الفقهاء الترزية. وأذكركم بإمام جامع العباس بالإسكندرية الشيخ عاشور الذي هاجم عبدالناصر علي الهواء وناقشه بهدوء ولم يغتاله أو يضعه في السجن أو يحيله علي المعاش، ونظرة إلي الوراء قليلاً نجد أنه منذ الحملة الفرنسية برزت خطورة الأزهر وعلماء المسلمين الذين يتصدون لأي ظلم نيابة عن الشعب والذين يستطيعون تعبئة الشارع المصري ضد أي حاكم كما كانوا هم في حكم الرقيب علي الحاكم، ولقد اكتشف محمد علي ذلك فاستخدم العلماء للقضاء علي المماليك وتثبيته في الحكم ثم انقلب عليهم فاغتال منهم من اغتال ونفي منهم من نفي ورشي منهم من ارتشي وجعلهم عيونا علي بعض، حتي جاءت الثورة فكان هناك «هيئة كبار العلماء» وأعضاؤها ليسوا أي علماء ولكن من يشهد لهم العلماء بأنهم علماء عن جدارة وكانوا ينتخبون منهم شيخ الأزهر وهو أكثرهم علما ومشهود له بالتقوي والورع وكانت رواتبهم تصرف من أوقاف المسلمين فلم يكونوا خاضعين في الرواتب أو التعيين للحكومة فكانت كلمتهم كبيرة وقوية لا تخشي إلا الله.. ألغيت هيئة كبار العلماء وحل محلها المجلس الأعلي للشئون الإسلامية ويرأسه ضابط اسمه توفيق عويضة ، وكان مقر المجلس «وأعتقد أنه مازال حتي الآن» في شارع الأمير خلف مقهي أسترا الذي أصبح الآن بيتزا هت في ميدان التحرير الشهير، بجوار الجامعة الأمريكية.. وأصبح شيخ الأزهر يتم تعيينه من قبل الدولة وألغيت الأوقاف فأصبح أيضا يتقاضي راتبه من الحكومة، بل أصبح في الإمكان تعيين شيخ الأزهر من خارج المجلس الأعلي للشئون الإسلامية.. أما شيوخ الجزيرة العربية فهؤلاء توقف علمهم علي سنة 1807 «حرب الوهابيين» علمهم قاصر حتي هذا التاريخ يختارهم خادم الحرمين ليفتوا له بالإفتاءات التي تساعده علي استقرار حكمه للجزيرة العربية ولاتخرج آراؤهم عن الكتب الصفراء التي تخطتها علوم الدين إلي ما هو أوضح وأكثر فقها ومنها فقه الواقع ومصالح المسلمين وهم في سبات عميق حرموا علي الناس كل شيء «دون أن يفهموا أولا ما طبيعة الشيء الذي يحكمون عليه» فالتليفزيون والفيديو حرام - ولم يعرفوا متي يكون حراما ومتي يكون حلالا بل هو حرام علي المطلق الصور الفوتوغرافية حرام! كشف المرأة لوجهها حرام! قيادة المرأة للسيارة حرام! لكن إذا قاد لها سائق أجنبي لايكون حراما، وإذا عمل عندها عامل فليبيني أو باكستاني لايكون حراما! نظام الاحتراف في الكرة حرام! وأخيرا مناصرة المسلمين في جنوب لبنان حرام والدعاء لهم لايجوز! لأنهم شيعة! والشيعة في نظرهم كفار ويدرسون ذلك للأطفال في المدارس برغم أن الشيعة يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت! وهم بذلك يخالفون رسول الله صلي الله عليه وسلم والذي يتباهون بأنهم أفهم ناس للسنة وهم الوحيدون الذين يطبقون السنة وأنهم الوحيدون الذين يدخلون الجنة فهم الفئة الناجية وباقي المسلمين في النار! هكذا يفكر أهل الكهف في القرن الواحد والعشرين، وحتي يعود الأزهر إلي بؤرة الصورة، وهي مكانه الصحيح لا مناص عن دعم الأزهر واستقلاله عن الحكومات.. صدقوني إنه الحل الوحيد ولاحل غيره فالأزهر هو كلمة السر للإصلاح الديني في مصر والعالم الإسلامي من بعده.