تلقيت دعوة كريمة من الصديقة الغالية إيناس عبدالدايم لحضور حفل سيدة الغناء العربى أم كلثوم فى دار الأوبرا، وجدت أن التكنولوجيا حدث لها جنون أزلى فقد استدعوا أم كلثوم على المسرح فى إحدى أغانيها وكنا أمام هذا الإعجاز فى الوضع مبهورين مندهشين مهللين شاكرين. انطلقت عاصفة من التصفيق وسط الحضور وكأنهم أمام الأسطورة التى لن يأت الزمن لها بنظير توقفت لغة الكلام وتحول المكان إلى معبد فى حضور وهمى لصاحبة الحنجرة ذات الرنين الجرسى كما قال عنها عمى مدحت عاصم الموسيقار الكبير الراحل.. دخلنا فى رحلة مع آلة الزمن.. نسير عكس الاتجاه للخلف در ولكن يا له من دوران نحو الخلف.. أبحرنا فى زمان الأبيض والأسود حيث الذوق الرفيع ولمسات الجمال فى كل موقع وكل مكان واختيار الكلمات بميزان لايخطئ وألحان ترتفع بمقام الكلام وصوت هو أداة توصيل تصعد إلى أعلى درجات الشجن والطرب فتحدث سعادة لا يمكن أن تتحقق هذه الأيام التى أصبح نمبر وان والشاكوش هما العلامات التجارية للفنون فى هذا الزمن.. غنت أم كلثوم بعد أن انطلقت عاصفة التصفيق «حيرت قلبى معاك» التى كتبها شاعر عظيم هو أحمد رامى ولحنها الموسيقار الكبير رياض السنباطى.. وحول جمهور السميعة الحفل إلى حقيقة واقعة عندما تفاعل مع الغناء ومع الشخصية التى تقف أمامه وكأنها أم كلثوم بشحمها ولحمها فخرجت الآهات ورغم أن جمهور الأوبرا مختلف إلا أنه ذكى فقد استكمل الصورة لتبدو الأمور وكأننا بالفعل أمام حفل لأم كلثوم فى عصرها ووسط جمهورها.. فأسمع سيدة من الصفوف الخلفية.. وبصوت خفيض ولكنه كان مسموعا.. عظمة على عظمة ياست.. وتنطلق عاصفة من الضحك والتصفيق الحاد.. وتسبح ذكريات الزمن الجميل فى رأسى.. أتذكر عمى وتاج الرأس الكاتب والمنتج المسرحى الكبير الراحل سمير خفاجى عندما تزوج خاله.. المرتبى بيه فطلبوا من سيدة الغناء العربى إحياء حفل الزفاف وأقاموا لها استعدادات لم نسمع بمثلها من قبلها وكيف أنها قامت بمنح العروس نقطة بلغت أكثر من ثلث أجرها.. وحدث أن داعبت شباب الأسرة فوجدت ثلاثة منهم يقفون معا فسلمت على الواقف على اليمين ثم الواقف على اليسار دون أن تلتفت إلى من يشغل مركز الوسط وهنا جاءت والدته تعاتب فى حب أم كلثوم كيف تجاهلت ولدها.. وردت بعفوية: أنا باكلم الجنبتين.. فضحك الجميع ماعدا الولد وأمه.. أما الجنبتين فهو تعبير لايعرفه إلا أهل الريف ومعناه ما يحمله الحمار من القفتين على جانبيه.. يعنى من فى الوسط هو الحمار.. وبعد ذلك بعقد من الزمن كان خفاجى فى طريقه إلى حفل لأم كلثوم فى القاهرة حمل معه أوتوجراف وذهب إليها لتكتب له إهداء فنظرت إليه وهى ترتاب فى أمره بعد أن ذكرها بموضوع الجنبتين وأمسكت الأوتوجراف وكتبت اسمها فى أعلى الصفحة لم تترك أى فراغ فوق اسمها.. فيضحك سمير خفاجى وقال لها ليه كده.. فقالت مش يمكن تكون أنت اللى كان فى النص وعاوز تنتقم.. كانت من أظرف خلق الله وأعظمهم ذكاءً.. نظرت حولى وخلفى كما حسنين ومحمدين وجدت الجميع فى حالة وجد.. وتوحد واندماج مع أم كلثوم.. كلهم هربوا من زماننا طالبين اللجوء إلى زمن الجمال والذوق وأجد عمنا الفريق أحمد شفيق وقد أخذه هذا العالم الوهمى المخملى وكان هناك الصديق الجميل إبراهيم خليل رئيس تحرير روزاليوسف السابق، كان يشكو لى منذ قليل من أوجاع أسنانه والتى أصبحت غير محتملة ومن خوفه من أطباء الأسنان وإذا به ينسى كل شيء وقد أصبح الكل فى واحد، الكل انصهر مع صوت أم كلثوم وحضورها الوهمى والكل لايريد أن يصدق أن ما هو أمامه إلا الحقيقة التى ينبغى حتى وإن كان وهما أن نصدقه إلى حين.. خلفى أصبحت الوزيرة الفنانة إيناس عبدالدايم مستمعة وبدرجة ممتازة وأيضا وزير الاتصالات الذى ذاب وجدا مع أحلام اليقظة وانتهى الحلم.. ولسان حالى يردد كلمات عمى كامل الشناوى.. وحين نفضت عينى الكرى.. لم أجد بين ذراعى سوايا.. نعم احتضنا فى القلب أم كلثوم ونسينا إلى حين الشاكوش والمطرقة وتخبيط الحلل ونمبر واان.. وبعد ذلك استمعنا إلى اثنتين من المواهب الثقيلة مى فاروق وريهام عبدالحكيم، تبادلتا غناء أجمل أغانى أم كلثوم «فات الميعاد» و«فكرونى» و«جددت حبك ليه» و«الاطلال» وكان ختامها مسك كلمات شاعرنا العظيم ابن النيل «مصر.. تتحدث عن نفسها». خرج هذا الجمع الغفير ليؤكد لشخصى الضعيف أن المجتمع ولله الحمد لايزال بخير وأن الذوق فقط فى حاجة إلى أن يهتم المسئول الأول عن الإعلام فى بلادنا بأمور المادة التى نخرج بها على الناس سواء كانت دراما أو غناء ذلك لأن ما وصلنا إليه.. أمر شديد الخطر.. بالغ السوء. مش كده ولا إيه.