ورد فى تأويل مختلف الحديث، وفى مقدمة ابن الصلاح وفى تدريب الراوى أنه روُى عن أبى هريرة أنه قال، قال رسول الله (ص): «من حمل جنازة فليتوضأ». فلم يأخذ بهذا الحديث ابن عباس وقال: «لا يلزمنا حمل عيدان يابسة على الوضوء». وروى أبو هريرة أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها فى إناء.. فإن أحدكم لا يدرى أين باتت يده»، فلم تأخذ بالحديث السيدة عائشة، وقالت إنها لم تسمع به، ولا تعرف من أين جاء. الاختلاف فى الروايتين، يضعف فيهما اليقين فقهيا بورودهما عن النبى (ص)، لا يجوز للمسلم، أن يحمل جنازة ولا يتوضأ، أو أن يقوم من نومه فلا يغتسل. المعنى، أن إلزام المسلم، بحديث نبوى مختلف عليه ممكن تسميته إلزاماً بتراث. أما ما روى عن المسلمين الأوائل فى تفسير الآيات القرآنية، أو تأويلها، أو ترتيب الأحكام عليها، فهو تراث أيضا. التجديد يعنى أنه لا بد من اعتبار اجتهاد أبى بكر أو عمر (رضى)، فى تفسير آيات الكتاب الكريم، واعتبار آراء عثمان بن عفان، أو على بن أبى طالب فى تحريم بعض أنواع البيوع مثلا، تراثًا أيضا. والتراث يجوز الأخذ به، ويجوز أيضا تركه، طبقا للمصلحة، ووفقا لتغير ظروف المجتمعات. أما نصوص القرآن الكريم، وآياته، فهى ليست تراثًا. القرآن الكريم كلام الله، لكن تفسيرات الصحابة لآياته والعلل منها، والمراد من نزولها فهو الذى يمكن اعتباره تراثًا، لذلك يمكن للمسلم، فى كل عصر الاجتهاد فى الأحكام على خلاف ما توصل إليه الصحابة، كما يجوز له الأخذ برأى مخالف لما رأوه أو أخذوا به. كان للنبى (ص) حق الاجتهاد فى تفسير النص الدينى، وبيان علة أحكام آياته فى عصور الإسلام الأولى، تمامًا كما استخدم الصحابة هذا الحق فتعاملوا مع روح النص لا مع حرفه، لكن تراثنا الدينى غّير صورة النبى (ص) التى أرادها الله، فأضاف التراث حقوقًا إليه (ص) بدت، بمرور الوقت أزمة فى تاريخ الفكر الدينى، أدت إلى اضطراب فى وضع السنة النبوية، ووضعها فى العقيدة، ومكانها فى نفوس المسلمين. الذى حدث، أن المسلمين تعاملوا مع السنة بطريقة حولت اجتهادات النبى فى تفسير أمور الدين، واعتبرت اجتهادات الصحابة فى مسائل مختلفة، من مجرد اجتهاد وفق الزمن والظروف، إلى مسلمات دينية، ومعلوم من الدين بالضرورة. الثقة فى السنة المنقولة، بلا فحص، ولا قدرة على النقض، بمرور الوقت أدى إلى دخول أسانيد أحاديث ضعيفة ومشكوك فيها إلى العقيدة، فالتصقت بصلب الدين، وأساس الإسلام . بمرور الزمن أيضا، تحولت الإشعاعات التراثية عن الرسول وصحابته إلى «مسلمات»، وأصبحت أية إشارة «قديمة» عن سلوكه وصحابته من «المتواتر» من المنقول عن النبى. (1) بعد أكثر من ألف وأربعمائة عام من الهجرة؛ بدت المشكلة فيما قيل إنه «متواتر» من أقوال النبى (ص)، فى الوقت الذى لم يكن قد ثبت هذا «التواتر» فعلًا. فانتشرت أحاديث مشكوك فيها وموضوعة، كانت سببًا فى تعزيز الفجوة بين المسلمين وغير المسلمين، وساهمت سنن منسوبة للنبى، فى تأسيس «عنصرية» بين العرب وغير العرب، ناهيك عما أضافه المشايخ من مزيد من المغالاة فى الحلال والحرام، وغلو فى الاستئثار بالحقائق واحتكارها، فاحتكروا الدين.. ووصفوا أنفسهم أنهم القيمون عليه. ظهرت أحاديث نبوية عن فضل «وقوع الذباب فى إناء المسلم» ومكرمة نبات «البقدونس»، وارتبط «بول الإبل» بما أطلق عليه العوام «الطب النبوى»، مع أن النبى عليه الصلاة والسلام لم يكن طبيبًا. حتى لو كان (ص) طبيبا، فالخروج عن اجتهاده فى الطب من زمنه لزماننا وارد؛ لأن ما يمكن أن يجتهد فيه أطباؤنا بعد 1400 عام من التطور والتكنولوجيا، يفوق بالضرورة اجتهاد وقدرات النبى فى عصره، دون أن يخالف هذا منهج الدين، ودون أن تخرجنا هذه الحقيقة من الإسلام. لما تحول التراث إلى مرادف للدين، ومرادف لأمور العقيدة والحياة، لم يكن غريبا، أن يصل اعتقاد البعض فى كتاب البخارى، إلى ما لا يمكن حسبانه على منطق، ولا على الدين، والتاريخ بين تفاصيل كثيرة كانت ثقة المسلمين فى البخارى فى أقصى درجاتها، حتى حل البخارى محل أقدس الإيمان، وأصبح ذلك الكتاب بلا سبب مرادفًا للدين، وموازيا لأصول الاعتقاد الإسلامى الصحيح. عندما دخل الفرنسيون القاهرة، وضربوا الأزهر بالمدافع، دخل المشايخ المصريون الأزهر وتلو أحاديث صحيح البخارى . وقتها استغرب قادة الحملة الفرنسية، ما الذى جعل المسلمين يلجأون إلى كتاب كتبه بشر، يحمل أحاديث بشر، فيستعيضون به عن كتاب الله، الذى هو ليس كلام بشر؟ فى تحقيقات ريا وسكينة، لاحظ وكيل النيابة أن الجميع يحلفون بالبخارى، ولا يحلفون بالله، ففى مرحلة كبيرة فى التاريخ الإسلامى، والمصرى كان كتاب البخارى قد تحول إلى مرادف للمقدس، ومعيار للقداسة. وكانت النتيجة، أن ارتد المجتمع الإسلامى على تفسير كتاب الله نفسه بتصورات فككت الدين، ورفعت أسعار «المشايخ»، ليزيدوا فى المغالاة، فأصبح ما يقوله الأزهريون، لأنهم القيمون على الدين، هو الدين، وأصبح ما يفتى به المشايخ هو ما يريده الله، لأنهم يحتكمون إلى كتاب الله! (2) يقول رجال الأزهر إن الإسلام لا به كهنوت، ولا به سلطة لرجل دين، مع ذلك، صنعوا كهنوتا جعلوا به كتابى البخارى ومسلم مقدسين، ووضعوا أصولا للسيطرة، جعلوا به ما جاء فى الكتابين، الأصح بعد القرآن، وجعلوا الاحتجاج على هذا الوضع، طريقًا إلى السجن، وخروجا عن الدين، بلا منطق.. وبلا سبب! هل كل الأزهريين بلا أخطاء؟ بالتاكيد لا، فما أصاب مجتمعاتنا من تغيرات اجتماعية، أصاب مشايخ الأزهر أيضا، وأصاب مناهجهم، وقدرة أئمتهم على الاستنباط الدينى، وطرق تفكيرهم فى أمور المصلحة. القاعدة الشرعية الإسلامية الثابتة هى: «حيثما توجد المصلحة فثمة شرع الله». المعنى أن أى استبناط لحكم أو فتوى، لا يجب أن يقوم على أصل دينى فقط، إنما فى الأساس يجب أن يتواءم مع مصالح المجتمعات، واستمرارها نحو التقدم، والسلام الاجتماعى. السؤال: هل إدخال البخارى ومسلم فى زمرة المقدسات الدينية فكرة تؤدى إلى المصلحة؟ هل اعتبار كتابين، كتبهما بشر، لكلام قاله بشر، ثم اعتبار ما جاء بهما أداة ملزمة فى التشريع، ووسيلة للأحكام الشرعية النافذة بلا جدال فكرة يمكن أن تؤدى إلى تقدم مجتمعات حديثة، يحاصرها التطرف من كل جانب؟ الإجابة: بالطبع لا، لكن كما يتندر كثيرون، فالأزهر باق والمسلمون زائلون. يعنى ما يريده الأزهر ورجال الأزهر وأئمة الأزهر مفترض أن يظل أساس الإيمان، حتى لو تغيرت عقلية رجال الأزهر، وطلاب الأزهر، ووضعوا مناهج الأزهر، مقارنة بما كان عليه مشايخ الأزهر قبل سنوات. معركة مشايخ الأزهر اليومين دول مع محاولات التجديد، وتمسكهم بقداسة كتاب البخارى، غريبة لو قارنتها بمؤتمر الأزهر عام 2009، عندما اتفق المشاركون على عدم الاعتداد شرعا إلا بالحديث النبوى «المتواتر»، مع الحذر الشديد فى التوصل إلى المتواتر. أهم ما خرج به الملتقى العالمى لخريجى الأزهر عام 2009، هو تأكيد أن منكر السنة «غير المتواترة» ليس كافرًا، كما اعتبر المؤتمر أن ما هو أدنى مرتبة من «السنة المتواترة» ليس ملزمًا. بالمناسبة ليست كل أحاديث البخارى ومسلم متواترة. بالمناسبة أيضا، فإن حجية «الحديث المتواتر» فى الفقه الإسلامى، وقوته هى التى جعلت الكثير من الأئمة قبل الإمام الشافعى يعولون عليه. ولأن الحديث المتواتر قليل، ونادر، شهر عن الإمام الشافعى اعتباره أن حديثا واحدا هو الذى يرقى إلى درجة التواتر، وهو: «من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». فى كتابه «أصول الفقه» لزكريا البرى، اختار الإمام الشافعى هذا الحديث من بين 596 ألف حديث شهروا عن النبى وقال: «هذا ما اطمأن إليه قلبى»! اعتبار الإمام الشافعى حديثا واحدا صادرا عن النبى، كان تجديدا جريئا، بلا خوف من ازدراء دين، ولا خوف من الحكم بالخروج من الملة . لكن فيما نفى الشافعى عن أكثر السنة القداسة، وفيما أتاح مشايخ الأزهر، قبل سنوات، كامل الحرية والمرونة فى النظر إلى مصادر السنة الإسلامية، كان مشايخ اليوم يقتلون على الأفكار، ويذبحون على البرامج التليفزيونية، ويلجأون للمحاكم لحبس المجددين فى الدين، بدعوى أن الأزهر هو الدين، ورجال الأزهر، وحدهم، هم رجال الدين! (3) فى كثير من كتب علم الحديث رواية، تتأرجح أغلب الأحاديث النبوية الواردة فى البخارى ومسلم بين المشهورة والآحاد. كتب شرح حديث كثيرة، موجودة فى المكتبات، وتدرّس فى المعاهد الإسلامية، تضعف كثيرا من رجال الأسانيد، وتسلسل الرواة فى كتاب البخارى، كما فعلوا الأمر نفسه فى رجال أسانيد صحيح مسلم. المعنى، أنه فى الوقت الذى يرفع فيه رجال الأزهر اليوم الأمر للقضاء انتصارا لعصمة البخارى، فإن كتب الفقه الإسلامى، أغلبها كانت تخرج كثيراً من أحاديث البخارى ومسلم من «شروط التواتر»، كما أن الشواهد والظروف والمعارف المجتمعية أخرجت كثيرًا من الأحاديث الواردة فيهما عن دوائر المنطق، والملاءمة العصرية. خد عندك مثلا، فى العام 2010 أعاد الشيخ «عبدالمحسن العبيكان» إخراج فتوى إرضاع الكبير من تحت الأرض، بعدما كانت قد أثارت أزمة قلبت العالم على المسلمين عام 2007. أعاد الشيخ العبيكان، أحد أهم مشايخ السلفية فى عصرنا الحالة، تأكيد ضرورة إرضاع المرأة للرجل البالغ العاقل الأجنبى عنها، إذا كان هناك ما يدعو، مثل الخوف من خلوة فى العمل تجمع بينهما، بلا محرم، كفاً لحرمة الاختلاط بين الجنسين! السؤال: هل ورد حديث إرضاع الكبير فى كتب التراث؟ الإجابة: نعم. السؤال: ألا يجوز التعامل معه بالنقد وفق ثقافة عصرنا، ووفق اجتهاد جديد يعلق العمل به حتى إذا صح نسبته للأقدمين؟ الإجابة: يجوز. السؤال: إذًا.. لماذا لم يحدث هذا؟ الإجابة: لا أحد يعلم! ورد حديث «إرضاع الكبير» منسوبًا للنبى (ص) فى صحيح البخارى ومسلم. يعنى الحديث متفق عليه، والمتفق عليه هو أعلى مراتب الحديث النبوى ثقة وصحة. يُروى أن الصحابى أبا حذيفة.. كان قد تبنى سالم قبل أن يبطل التبني؛ فصار كابنه، يدخل البيت وزوجة أبى حذيفة لا تحتجب عنه، فلما أبطل الله تعالى التبنى صار سالم وقد كبر أجنبيًا عن «سهلة» زوجة أبى حذيفة، فجاءت تشتكى إلى النبى (ص) وتقول: «إنَّ سالمًا كان أبو حذيفة قد تبناه يدخل علينا ونكلمه، وقد بَطَلَ التبنى»، ويروى عنه (ص) قوله لها: «أرْضِعيه تَحْرُمِى عَلَيه». السؤال: هل يجوز اليوم، الاعتداد بحديث يأمر النساء بتعرية أجسادهن، لإرضاع رجال أجانب غرباء، كفا لحرمة الاختلاط تطبيقا لكتاب كتبه بشر، واعتبره بشر أصح كتاب بعد كتاب الله؟! طيب.. إذا كان الحديث قد ورد فعلا فى البخارى ومسلم، فهل بالضرورة يجب أن يستمر اعتقادنا فى أن الكتابين هما الأصح بعد كتاب الله؟ طيب مرة ثانية، هل يجوز أن يظل إسلام بحيرى فى السجن، لأنه نادى بضرورة أن نعيد تنقية الاعتقاد فى كتابى البخارى ومسلم؟! أنت وضميرك بقى! •