يبدو أن المشتركات القليلة ما بين الهند وباكستان من تلك الناجمة عن جذور البلدين والشعبين التاريخية والثقافية والاجتماعية الواحدة، قد أضيف إليها الآن مشترك جديد هو تصفية الرموز السياسية بالطريقة ذاتها، فما حدث في الرابع من شهر يناير الجاري في باكستان، حينما تمت تصفية «سلمان تيسير» حاكم إقليم البنجاب «منذ عام 2008» والعنصر القيادي البارز في حزب الشعب الباكستاني الذي يترأس الائتلاف الحاكم في إسلام آباد، بدم بارد علي يد حارسه الشخصي «مالك ممتاز قدري» بإطلاق الأخير تسع رصاصات «من أصل 29 رصاصة داخل سلاحه الآلي» علي المجني عليه في منطقة الصدر والرقبة، يذكرنا بما حدث في أكتوبر من عام 1984 حينما قام اثنان من الحراس الشخصيين لرئيسة الحكومة الهندية الأسبق السيدة أنديرا غاندي من طائفة السيخ «ساتوان سينغ وبين سينغ» باغتيالها داخل حديقة منزلها. بل إن الدوافع - رغم بعض الاختلافات- والأصول العرقية للجناة تكاد أن تكون متشابهة أيضا، فالسيدة غاندي دفعت حياتها ثمنا لقرارها الحازم بالتصدي للانفصاليين السيخ «في ولاية البنجاب الهندية» الذين كانوا يسعون وقتذاك إلي تأسيس «جمهورية خالستان» وذلك حينما أمرت الجيش الهندي باقتحام قدس أقداسهم وهو معبد «أمريستار» الذهبي وبالمثل دفع تيسير حياته ثمنا لتبنيه موقفًا مضادًا لحركة طالبان الأفغانية وأشياعها من الميليشيات والتنظيمات الباكستانية المتشددة الساعية إلي ضرب وحدة باكستان وتوتير علاقاتها مع دول الجوار ونشر المزيد من الفوضي والاحتقانات المذهبية البغيضة في هذه البلاد المنكوبة بألف علة وعلة، هذا ناهيك عن تسامح الرجل الذي تجسد بأروع صورة في دفاعه عن «آسيا بيبي» وهي امرأة باكستانية مسيحية اتهمت في وقت سابق من العام الماضي بازدراء الأديان، ثم تجسد لاحقًا في حمله للواء المعارضة والتنديد الشديد بالقانون المثير للجدل والمتعلق بالتجديف، بل المطالبة بإدخال تعديلات جوهرية عليه. وتأتي أهمية حادثة مقتل تيسير «66 عامًا» ليس فقط من كون الرجل أحد أكثر الأصوات المعتدلة في بلاده، وأحد أكثر قادة «حزب الشعب الباكستاني» كاريزما وعصامية «صنع ثروته من عمله في مجال المحاسبة قبل أن يؤسس شركات استشارية وأخري عاملة في مجالي البورصة والاستثمار العقاري» وأحد أكثر ساسة باكستان جرأة في اتخاذ المواقف الصريحة حيال أعمال التمييز والتجاوزات، وإنما أيضا مما يشكله رحيله من خسارة لأقليم البنجاب الذي يعتبر سلة الغذاء للبلاد «بسبب جريان أنهار البلاد الخمسة الرئيسية وفروعها في أراضيه» والأقليم الأكثر كثافة لجهة السكان «يعيش فيه أكثر من نصف العدد الإجمالي للسكان»، والأعظم لجهة الأهمية الجيوسياسية «يمتد علي طول الحدود الغربية للهند، ويحتضن ثاني أهم المدن الباكستانية وهي لاهور»، والأقل لجهة التنوع الديني «حيث لا يسكنه من أتباع الديانات الهندوسية والمسيحية والبوذية والمجوسية سوي نسبة قليلة مقارنة بالأقاليم الباكستانية الأخري، والأبرز لجهة تزويد مؤسسة الجيش النافذة بكوادرها ومنتسبيها «نصف إجمالي عدد عناصر الجيش والأمن والمخابرات ينحدون منه». ومثلما جاءت عملية اغتيال السيدة غاندي في وقت عصيب، كانت فيه الهند تشهد اضطرابات داخلية وأزمة سياسية تهدد وحدتها ونظامها الديمقراطي، فإن اغتيال تيسير جاء هو الآخر في ظروف مشابهة بالنسبة لباكستان وربما أكثر مدعاة للخوف والقلق. فالحكومة الباكستانية الحالية بقيادة رئيس الوزراء سيد يوسف رضا جيلاني» لا تخوض فقط حربًا صعبة في إقاليمها الشمالية الغربية، وسط تذمر من رموز ومنتسبي مؤسسة الجيش، ولوم وتقريع من حليفها الاستراتيجي الأول أي الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتصاعد للاحتقانات المذهبية بين الغالبية السنية والأقلية الشيعية، وتنديد من طهران لما يقال عن تسترها علي حركة «جند الله» السنية البلوشية وتنديد آخر من كابول لسياستها المتساهلة مع عناصر حركة طالبان وتنظيم القاعدة، ومصاعب اقتصادية جمة كنتيجة لهروب الاستثمارات، علاوة علي تداعيات كارثة الفيضانات المدمرة في عام 2010، وإنما فوق هذا كله تواجه حكومة «جيلاني» الائتلافية احتمالات السقوط بسبب عدم امتلاكها الآن للأغلبية البرلمانية «172 مقعدًا» بعدما قرر حزب «الحركة الانسحاب من الائتلاف الحاكم، كما تواجه ضغوطًا لتقديم استقالتها من شريكه السابق حزب «جمعية علماء الإسلام» الذي له ثمانية مقاعد في المجلس الوطني، ومن حزبي المعارضة الرئيسيين ممثلين في «الرابطة الإسلامية- جناح نواز» بزعامة رئيس الوزراء الأسبق «نواز شريف» «له 91 مقعدًا»، و«الرابطة الإسلامية - جناح قائد أعظم» بزعامة «تشودري شجاعت حسن» له 50 مقعدًا. إن اغتيال تيسير يؤكد مجددًا تنامي النزعة الدموية المتشددة في المجتمع الباكستاني، وهذه النزعة لئن كانت أحد تداعيات «ثقافة الكلاشينكوف» التي وطدت أقدامها في باكستان في سنوات الجهاد الأفغاني ضد السوفييت، بفضل تشجيع ومباركة ودعم نظام الرئيس الأسبق الجنرال ضياء الحق «1977-1988» وحلفائه فحصدت أرواح الآلاف من الأبرياء، فإنها في صورتها الحالية قد تجاوزت كل الحدود، وباتت تشكل منحي مرضيا يصعب علاجه، أو حالة من التحوش والانسلاخ عن العقل. وإذا كان المدعو «ممتاز قدري» هو الذي سفك دم تيسير مباشرة، فإن القتلة غير المباشرين كثر وأكثر من أن يحصوا ذلك أنه خلال السنوات الثلاث الماضية لم يضع اليمين الباكستاني المتطرف بالتحالف مع قوي الإسلام السياسي المتشددة أدني فرصة للتحريض ضد تيسير، وتلطيخ سمعته والتشهير به، تارة عبر الإشارة إلي علاقاته الشخصية المتينة مع زعيم باكستاني العسكري السابق الجنرال «برويز مشرف» الذي عينه كحاكم للبنجاب، وتارة أخري عبر التنقيب في سيرته الشخصية، مع إبراز حقيقة أصول والدته الألمانية، والتوقف مليا عند اقترانه بحسناء سيخية من نجوم التليفزيون الهندي، ومرارًا عبر التذكير بعلمانيته من أجل تأليب البسطاء والعامة ضده، علي اعتبار أن العلمانية كفر وإلحاد، أي علي النحو الذي فعله ويفعله رجال الدين وأئمة الجوامع في أوطاننا العربية ضد كل من لا يلتقون معه فكريا. باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين