زعيم مصر في وثائق ويكيليكس لا أريد أن أتطرق إلي ما يتناثر يوميا من وثائق ويكيليكس، سواء كان يخص مصر أو غيرها، ذلك أن ما قد انكشف من الأسرار ليس سوي «رذاذ أمواج محيط هادر»، محيط قوامه ربع مليون وثيقة، لا يمكن حتي أن نقول عما نشر منها أنه قمة جبل الجليد، الجبل لم يلح منه شيء بعد، لا سيما أن التوقعات تشير إلي أن ما يخص شئون مصر فيها قد يصل إلي 2500 وثيقة. لقد تناولت الأمر من قبل، وطرحت في عمود «.. ولكن» تحت عنوان «زلزال ويكيليكس» مرة، وتحت عنوان «ويكيليكس والإخوان» في مرة ثانية، طرحت تساؤلات حول الاستفهامات المثارة بخصوص ويكيليكس وما تفجره من علامات تعجب، في ضوء التدمير الذي تتعرض له العلاقات الأمريكية مع جميع دول العالم، وحتي لو كان ما انكشف من الوثائق قد قال عنه وزير الخارجية أحمدأبوالغيط يظهر أن مصر تقول في العلن ما تقوله في الغرف المغلقة.. وهو أول تعليق مصري رسمي علي مضمون ما أعلن من هذه الوثائق. فإن الجميع لم يزل يتساءل: لماذا لم تتناول هذه الأوراق الخطيرة أي أمور إسرائيلية؟ ولماذا لم تقترب من مسائل القاعدة والإرهاب؟ وهل هذا عمل مسرب نتيجة لاختراق أمني، أم أنه مؤامرة كبيرة متكاملة برمتها، أم لعله اختراق يتضمن تسريبًا.. أي حدث الاختراق وتقرر توظيفه جزئيا؟ لكنني هنا أتوقف أمام الوثيقة الأخيرة التي انكشفت في صحيفة جارديان قبل ثلاثة أيام، وتضمنت تقريرًا كتبته السفيرة الأمريكية مارجريت سكوبي من القاهرة للإدارة في واشنطن حول الرئيس مبارك، للدقة لا أتوقف أمام مضمون الوثيقة برمتها وإنما أمام معني أو أكثر.. وأمام عبارتين لا أكثر. المعني الأول هو أن ما كتبته السفيرة هو تقديرها، وتحليل هذا التقدير ربما احتاج إلي صفحات، والمعني الثاني هو أن مضمون التقدير ينطوي علي شعور أمريكي متنامٍ بالاستقرار في مصر.. بغض النظر عما تتلقمه السفارة الأمريكية يوميا من مصادر مختلفة في مصر من بين المعارضين. العبارتان اللتان أنا معني بهما هنا.. وفقًا لما ورد في نص الوثيقة.. هما تلك التي وصفت فيهما السفيرة الرئيس بما يلي: «يستجيب جيدًا لمن يبدي الاحترام لبلده.. زعيم معتد بنفسه لأمة فخورة بنفسها».. و«لا يتأثر بالتملق الشخصي». وسوف أبدأ بالعبارة الثانية، لسبب شخصي، وهو أنني كتبت هنا في الصفحة الأولي مقالا بتاريخ 30 سبتمبر الماضي، ضمن سلسلة «مستقبل الصحافة القومية» كان عنوانه: «انتهي زمن النفاق» وقد قلت فيه: «هذا زمان لم يعد فيه النفاق متطلبًا.. ولم يعد فيه التزلف مقبولاً»، وأضفت حيث كنت أتكلم عن مناهج في الصحافة: «إن هناك فرقًا كبيرًا بين النفاق والمساندة». بالطبع كان هذا مقالاً عن مدارس الصحافة واتجاهاتها، وقد ارتبط المقال بواقعة كانت مثيرة للجدل وقتها لا أريد أن أفتح ملفها مرة أخري، لكن الأمر في حالة السفيرة له علاقة بشأن إضافي فيما يخص محاولة «تملق الرئيس»، ذلك أن في العلاقات بين الدول أيضًا نفاقًا.. وفي السياسة تزلفًا.. والأول يكون فخًا.. والثاني يكون خداعًا.. والحكماء هم الذين لا تنطوي عليهم تلك الأمور.. وتقول شهادة السفيرة إن الرئيس المصري لا يتأثر بهذا النوع من التملق. والمعني أننا أمام رئيس عملي، واقعي، يعلي مصالح بلده واهتمامات دولته فوق ترضية ذاته ومداهنة شخصه، وليس هناك زعماء كثيرون من هذا النوع، وبالتأكيد لا ينطوي هذا علي مقومات شخصية فحسب.. وإنما هو منهج يتبعه الرئيس سلوكيا في سياق خبرة عريضة وخصائص تراكمت من تجارب السنين. وليست العبارة الأولي ببعيدة عن هذا، وإنما تصب في ذات الاتجاه، فهي تعني أن الرئيس لا يحتاج إلي التملق لأنه ببساطة يعتد بنفسه، ويثق فيها، ويفخر بما لها، بتاريخها وإنجازها، وهذا أيضا يأتي في سياق موضوعي.. لا ذاتي.. ويرتبط بكونه زعيمًا لبلد كبير.. وصف في هذه الوثائق المتناثرة من موقع ويكيليكس بأنه «الحليف العنيد».. أي مصر تلك التي يقول عنها بعض المصريين المارقين عن مصريتهم - ولا أقول المعارضين - إنها تمالئ القوي الكبري.. وتعمل من أجل مصالحها.. في حين أن شهادة الآخرين تثبت وقائع الأمور وحقيقتها. هذه أمة فخورة بنفسها فعلا، وتعتز بذاتها حقًا، ولديها إحساس أصيل بدورها ومكانتها وثقافتها ورسالتها، عبر الزمن وعبر الجغرافيا، ومن ثم فإن الطبيعي جدًا هو أن الرئيس مبارك يستجيب «لمن يبدي احترامًا لبلده».. باعتبار أن هذا البلد يجب أن يصنف في الذهنية العالمية والذاكرة الإنسانية وفق ما ينبغي أن يقدر به.. ومن علي هذه الأرضية يكون علي الجميع أن يتعامل. وإذا كان هذا هو رأي الآخرين، وتشخيصهم للواقع غير المزيف، فكيف إذن يعتقد البعض أنه يمكن لمصر أن تقبل ما لا ترضي، وأن توافق علي ما لا يتسق مع مصالحها، وأن تمرر ما يناقض أهدافها، وكيف ببعض المصريين المارقين من مصريتهم أن يظنوا أن هناك من يمكن له أن يؤثر في قرارها أو في قرار رئيسها أو يدفعها لأن تتخلي عن منهجها أو عن شعورها الفخور بذاتها. هذا الفخر القومي له مقومات وله تبعات، مقوماته التاريخية والثقافية والسكانية والمجتمعية عمومًا لا يمكن لأحد أن يتخطاها، بلد كبير في كل شيء، يجوع ولا ينحني، كبرياؤه فوق كل اعتبار، وقيمته لا يقاربها ثمن، وقد امتلأ الرئيس بكل هذا.. لأنه ابن أصيل لمصر وزعيم حقيقي من بين لحاء المجتمع، وبالتأكيد فإن للحفاظ علي هذا تبعات.. ونتائج.. لأن لكل موقف ثمنًا.. ولكل نهج أثرًا.. ولكل فعل رد فعل.. ومن ثم فإن المعادلة لا تستقيم إلا بوجهي العبارة «رئيس يعتد بنفسه لأمة فخورة بذاتها».. فلو لم يكن البلد كذلك ما كان الرئيس هكذا.. ولو لم يكن الرئيس هكذا لدفع البلد الفخور أثمانا تضيع هيبته. ليس هذا تملقًا لرئيس نعرف ونكتب ونقول إنه يرفض النفاق، ولكنه تسجيل لوقائع وتأكيد لمعانٍ وتشخيص لحالة ورصد لخصائص.. تلك هي مصر وهذا هو زعيمها. www.abkamal.net [email protected]