لا يحتاج أهل جنوب السودان إلي الاستفتاء المقرر إجراؤه في شهر يناير القادم لإعلان انفصالهم رسميا عن السودان، فوقائع الانفصال علي الأرض بدأت تأخذ مجراها بشكل لا تخطئه عين، علما بأن انفصال جنوب السودان عن شماله كان قد أصبح عقيدة سودانية يتحدث عنها الساسة في جلساتهم الخاصة، بينما يخرجون للعلن بحديث لم يطبق علي الأرض أبدًا مفاده جعل خيار الوحدة جاذبًا. ويتصور بعض الناس أن مقدمات الانفصال قد ظهرت أو ولدت عقب توقيع اتفاقيات نيفاشا بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان عام 2003، وأتذكر جيدا أنني زرت السودان عام 1997، وبعد توقيع الحكومة السودانية اتفاقية سلام مع خمس فصائل جنوبية ليس من بينها الحركة الشعبية، وقد حرصت علي إجراء استقصاء رأي غير علمي بين الجنوبيين الذين يعيشون في الخرطوم: هل تختارون الوحدة أم الانفصال؟ فلم أجد جنوبيا واحدًا مع الوحدة. وبعد عدة أشهر من توقيع اتفاق نيفاشا أصدرت كتابا عن السودان أكدت فيه بالكثير من الوثائق والمشاهدات الشخصية أن الانفصال قادم لا محالة، حتي لو قال السياسيون في الشمال والجنوب إنهم يسعون إلي جعل خيار الوحدة جاذبًا. وفي يناير القادم سيذهب أهل جنوب السودان لاختيار الانفصال عن الشمال، ما يعني ولادة دولة جديدة، أتصور أنها صارت حاضرة في جميع الأدبيات السودانية منذ عام 1995 علي الأقل. ومن يتابع ملف جنوب السودان بدقة يلحظ أن مطالب الجنوبيين حتي منتصف التسعينيات كانت تتراوح بين حقوق المواطنة المتساوية، وصولا إلي حكم ذاتي في إطار الدولة السودانية كما جري في اتفاق أديس أبابا عام 1972 الذي نص علي حكم ذاتي لجنوب السودان، وظل هذا الاتفاق قائمًا حتي عام 1983 حينما ولدت الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة العقيد جون جارانج. وكان يمكن لهذا الاتفاق ان يمثل مدخلاً مهماً لإنهاء عقود من التمييز والإهمال الذي عاني منه جنوب السودان وسائر أطراف الدولة السودانية، لكن تطورين مهمين حدثا علي الساحة السودانية، الأول تعيين زعيم الجبهة القومية الإسلامية الدكتور حسن الترابي مدعياً عاماً في السودان، ومن ثم قرر الرئيس السابق جعفر نميري المتحالف مع الإسلاميين تطبيق الشريعة الإسلامية علي سائر السودان، دون الوضع في الاعتبار التنوع الثقافي والديني لهذا البلد. وأدي هذا التطور إلي ظهور الحركة الشعبية التي كانت مغرمة بالماركسية ورفعت شعار السودان الجديد دون أن تدخل الانفصال في أدبياتها.. حتي حدث التطور الأبرز علي الساحة السودانية وهو انقلاب الجبهة القومية علي الحكم الديمقراطي في السودان 1988، وإعلانها الجهاد المقدس ضد الجنوب الكافر. وهنا ظهرت تحالفات شمالية وجنوبية جديدة، وفرض مفهوم تقرير المصير نفسه في مقررات أسمرا التي صاغتها المعارضة الشمالية والجنوبية، وفي اتفاق بعدها بقليل بين الحكومة السودانية وخمس حركات معارضة.. وصولا إلي التصريح الشهير لزعيم حزب الأمة الصادق المهدي بعد هروبه من السودان: إما وحدة طوعية أو تسريح بإحسان. ضاعت الوحدة الطوعية.. ولم يعد الانفصال بإحسان مطروحًا.. بل أصبح أمرًا واقعاً ينتظر يناير القادم ليصبح شرعيا.. والمهم الآن أن يكون بإحسان.