إن كانت البشرية قد عجزت حتي اللحظة عن إدراك ماهية العقل واكتناه ذاته فإنها قد اتفقت وبصورة شبه كاملة علي وظائف العقل ومهامه, ومن هذه المهام الإدراك والتمييز والربط والكشف والتشكيل والتحليل والخلق والإبداع, وقد قام العقل بهذه الوظائف من خلال ثوابت وبديهيات أودعها الله سبحانه وتعالي داخل هذا العقل ومن هذه الثوابت والبديهيات التي اتفق عليها فلاسفة الفكر قديما وحديثا ما يلي: 1 - الهوية أو الذاتية: ويعني هذا المبدأ أن الشيء لا يمثل غير ذاته ولا يمثله غيره فكل شيء في هذا الكون له ذات وهوية خاصة به لا يمكن عقلا لشيء آخر أن ينوب عن هذه الذات أو يمثلها أو يكون بديلا عنها، وهذا مبدأ عقلي ثابت. 2 - عدم التناقض: ويعني هذا المبدأ عدم اجتماع صفتين متضادتين في شيء واحد، فالضوء لا يمكن أن يكون ضوءاً وظلمة معا في آن واحد. 3 - الوسط الممتنع: وهذا المبدأ يرفض وجود حالة وسط بين الصدق والكذب، فمثلا أشيع أن زيدا قد مات، فإما أن يكون الخبر صادقا وإما أن يكون كذبا ومحال أن توجد حالة ثالثة وسطي بين الصدق والكذب. 4 - السببية: ويعني هذا المبدأ أن لكل فعل فاعلاً ولكل موجوداً موجد وسبباً كافياً وعلة في وجوده. فهل من فرقان ما بين مفهوم العقل عند العرب، ومفهومه عند الغرب؟، يري البعض أن مفهوم العقل عند الغرب يختلف عن مفهوم العقل عند العرب فالعقل في المفهوم الغربي يعني: الحرية في السعي لإدراك واكتشاف العلاقات بين الأشياء والظواهر وبالتالي تشكيل علاقات جديدة بينها وهو ما يسمي بالخلق والإبداع. ومن هنا يحاول البعض تحت ضغط الحضارة الغربية وما تحمل من تطور مادي وحضاري أن يقلل من شأن ومفهوم العقل العربي، وذلك من خلال الدلالة العربية للعقل الواردة في المعاجم العربية، ومن هنا يحاول البعض أيضا خلق هوة بين مفهوم العقل عند العرب وبين مفهوم العقل عند الغرب استنادا في ذلك إلي دلالة كلمة (عقل) الواردة في المعاجم العربية، ثم الذهاب بهذا المعني مذهبا بعيدا عن المقصد الحقيقي للدلالة, بل ويري أن مفهوم الدلالة نفسه هو السبب في تأخر العرب فكريا وثقافيا وسياسيا، وذلك لتحقير العقل العربي والتقليل من شأنه، وإحداث قطيعة بين العرب وبين لسانهم (لغتهم) الأم. لم يكن هذا الفهم القاصر للمفهوم الحقيقي للعقل لدي العرب في دلالته اللسانية (اللغوية) سوي سوء نية مقصود من البعض لمحاولته تشويه اللسان العربي (اللغة العربية) في نفوس العرب والمسلمين، وذلك بإيهام الناس أن ما أنتم فيه من تأخر وتخلف هو ارتباطكم بلغة كانت هي السبب الحقيقي في تخلفكم وجعلكم في ذيل الأمم فكريا وثقافيا وسياسيا وعلميا، وحتي يؤكد هؤلاء البعض صواب قولهم هذا قاموا بمحاولة غير نزيهة وغير علمية لتفسير مفهوم العقل الوارد في المعاجم العربية وربط هذا المفهوم وهذه الدلالة بما وصل إليه حال العرب والمسلمين من تأخر وتخلف الآن، فقاموا بأخذ دلالة الفعل (رَبَطَ) أو (قَيدَ) للفعل (عَقَلَ) ومقولة العرب (عقلت الدابة) أي ربطتها وقيدتها إلي وتد في الأرض, وزعموا أن المستحدث في مفهوم الكلمة له علاقة وثيقة بأصلها (ربط) أو (قيد)، فحملت علي تحكم الإنسان في تفكيره وتخليقه وربطه وتقييده لهما. وبهذا التفسير المشبوه حاول البعض أن يصور مكونات العقل العربي ويحصرها في الربط والقيد فقط، بمعني الالتزام بقواعد وثوابت قد تعارف عليها الناس في العالم العربي عبر مرجعياتهم الثابتة كثبات الوتد في الأرض، مما أعاقهم عن أي تقدم، بل ذهب هؤلاء إلي اتهام العقل العربي عموما وعلي مدار تاريخه بتقيده بالحدود التي تعارف عليها واعتبرها هي العقل، وزعموا أن التعرف علي حقيقة هذه القواعد والمرجعيات أو الخروج عليها هو عمل مضاد للعقل أو هو عمل غير عقلاني. (للحديث بقية)