انقطاع الكهرباء عرض مستمر.. ومواطنون: «الأجهزة باظت»    الكنائس تخفف الأعباء على الأهالى وتفتح قاعاتها لطلاب الثانوية العامة للمذاكرة    الأكاديمية الطبية العسكرية تفتح باب التسجيل فى برامج الماجستير والدكتوراة    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 27 يونيو 2024 في البنوك (التحديث الأخير)    الحكومة تحذر من عودة العشوائية لجزيرة الوراق: التصدى بحسم    أصحاب ورش باب الشعرية: إنتاجنا تراجع 40٪.. واضطررنا لتسريح عُمّال    شهداء وجرحى في قصف إسرائيلي لمدرسة تؤوي نازحين شرق خان يونس    إجراء جديد من جيش الاحتلال يزيد التوتر مع لبنان    يورو 2024.. ترتيب مجموعة البرتغال بعد الخسارة أمام جورجيا    الأهلي يعلق على عودة حرس الحدود للدوري الممتاز    ميدو: الزمالك «بعبع» ويعرف يكسب ب«نص رجل»    خالد الغندور: «مانشيت» مجلة الأهلي يزيد التعصب بين جماهير الكرة    بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم.. والأرصاد الجوية تكشف موعد انتهاء الموجة الحارة    «نجار» يبتز سيدة «خليجية» بصور خارجة والأمن يضبطه (تفاصيل كاملة)    نجاة 43 أجنبيا ومصريًا بعد شحوط لنش فى «مرسى علم»    أبطال مسرحية «ملك والشاطر» يقرأون الفاتحة قبل دقائق من بداية العرض (فيديو)    «الوطنية للإعلام» تعلن ترشيد استهلاك الكهرباء في جميع منشآتها    «مسيطرة همشيك مسطرة».. نساء 3 أبراج يتحكمن في الزوج    على الهواء.. إيمي سمير غانم تغني لزوجها حسن الرداد «سلامتها أم حسن» (فيديو)    نشأت الديهي: هناك انفراجة في أزمة انقطاع الكهرباء    البابا تواضروس يتحدث في عظته الأسبوعية عن مؤهلات الخدمة    تنسيق الجامعات 2024.. تعرف على أقسام تمريض حلوان لطلاب الثانوية    دوري مصري وكوبا أمريكا".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    بمشاركة رونالدو.. منتخب البرتغال يسقط أمام جورجيا في كأس أمم أوروبا 2024    "أخوات للأبد".. شعار مباراة الإسماعيلي والمصري في ديربي القناة    يورو 2024، تركيا تفوز على التشيك 2-1 وتصعد لدور ال16    الاتحاد الأوروبي يدين الانقلاب العسكري في بوليفيا ويعتبره محاولة لخرق النظام الدستوري    موظفو وزارة الخارجية الإسرائيلية يهددون بإغلاق السفارات    عاجل - مرشح رئاسي ينسحب من الانتخابات الإيرانية قبل انطلاقها بساعات..مدافع شرس عن الحكومة الحالية    انتهت بالتصالح.. كواليس التحفظ على سعد الصغير بقسم العجوزة بسبب "باب"    هيئة الدواء المصرية تستقبل وفدا من اتحاد الغرف التجارية    السيطرة على حريق نشب داخل ورشة أخشاب في بولاق الدكرور    بينهم طفل وشاب سعودي.. مصرع 3 أشخاص غرقا في مطروح والساحل الشمالي    الكويت والعراق يبحثان سبل متابعة تأمين الحدود المشتركة بين البلدين    قانون جديد يدعم طرد الأجانب الداعمين للإرهاب في ألمانيا    جورجيا تحقق فوزا تاريخيا على البرتغال وتتأهل لدور ال16 فى يورو 2024    الاستعلام عن شقق الاسكان الاجتماعي 2024    تعرف على سبب توقف عرض "الحلم حلاوة" على مسرح متروبول    حدث بالفن | ورطة شيرين وأزمة "شنطة" هاجر أحمد وموقف محرج لفنانة شهيرة    «30 يونيو.. ثورة بناء وطن».. ندوة في قصر ثقافة قنا للاحتفال بثورة 30 يونيو    محافظ بني سويف يكلف التأمين الصحي بتوجيه فريق طبي لفحص سيدة من ذوي الهمم    حكم استرداد تكاليف الخطوبة عند فسخها.. أمين الفتوى يوضح بالفيديو    سماجة وثقل دم.. خالد الجندي يعلق على برامج المقالب - فيديو    بالفيديو.. أمين الفتوى: العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة عليها أجر وثواب    نقابة الصحفيين تتقدم بطلبات للنائب العام حول أوضاع الصحفيين في الحبس    في اليوم العالمي لمكافحة المخدرات- هل الأدوية النفسية تسبب الإدمان؟    القوات المسلحة تنظم مؤتمراً طبياً بعنوان "اليوم العلمى للجينوم "    إقبال طلاب الثانوية العامة على مكتبة الإسكندرية للمذاكرة قبل الامتحانات|صور    مساعد وزير البيئة: حجم المخلفات المنزلية يبلغ نحو 25 مليون طن سنويا    بتكلفة 250 مليون جنيه.. رئيس جامعة القاهرة يفتتح تطوير مستشفي أبو الريش المنيرة ضمن مشروع تطوير قصر العيني    المشدد 5 سنوات لمتهم بجريمة بشعة في الخصوص    كيف يؤدي المريض الصلاة؟    إسلام جمال يرزق بمولود.. اعرف اسمه    الكشف على 2450 مواطنًا وتقديم الخدمات مجانًا بقافلة القومى للبحوث فى أطفيح    تسليم 1155 جهازًا تعويضيًا وسماعة طبية لذوي الهمم بكفر الشيخ    هل يجوز الرجوع بعد الطلاق الثالث دون محلل؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    ميناء دمياط يستقبل سفينة وعلى متنها 2269 طن قمح    بدء جلسة البرلمان بمناقشة تعديل قانون المرافعات المدنية والتجارية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من يفكر بعقل السماء في شأن بشري كمن يتساءل عن السبب في الطواف حول الكعبة سبعا لا تسعا أو عشرا!
نشر في القاهرة يوم 13 - 04 - 2010

وقد أدرك المعتزلة هذا المعني في الفارق بين العقلين مبكراً، عندما قدموا حكم العقل البشري إذا تعارض مع ما جاءنا من العقل الرباني وحياً، ليس مخالفة للسماء وأحكامها، إنما إدراكاً منهم أن لكل منهما طرائقه المختلفة عن الآخر، لذلك رجحوا حكم العقل البشري إذا تعارض مع النقل وفضلوه عليه، إدراكاً منهم أن للنقل / الوحي / العقل الرباني، منهجاً ونظاماً يختلف عن العقل البشري، وإنه ليس بإمكان البشر فهم العقل الإلهي والعمل بطرائقه لأنه لوحدث لأصبحنا أرباباً وهو المستحيل عينه .
وربما امتاز المعتزلة لهذا السبب عن أقرانهم من مجتهدي المسلمين، لأن الآخرين وحتي اليوم يخلطون بين اللونين من العقل والفهم، وهو ما يؤدي إلي نتائج مضللة، فيفتون بالعلاج ببول الإبل والحجامة زمن طب الجينات والخلايا الجذعية، لأنهم يريدون التفكير بعقل السماء في شأن بشري بحت لا علاقة له بالعقل الرباني، فهذا الشأن البشري يقوم علي بحث ومختبرات ومعامل وتجارب وتحليل وتركيب واستنتاج، وهو كله ما لا يحتاج إليه العقل الرباني الكلي القدرات والغني عن التجربة والرفيع عن الخطأ والصواب والمحاولة بينهما، لذلك فإن من يخلطون بين العقلين الإلهي والإنساني يضرون أشد الضرر بالدين وبالمجتمع، ويظلون حائرين في مساحة أسئلة تتردد منذ فجر الإسلام وحتي اليوم دون حلول يتفقون عليها، لأنها أسئلة بدون إجابات، لأنهم يدخلون بالعقل البشري منطقة الإلهي فيسألون كيف تلد الصخرة ناقة ؟ وكيف هو عرش الإله ؟ وهل له عين كي يكون بصيراً ؟ وكيف هي يده التي فوق أيدينا؟ وهو كله ما لا يمكن الوصول فيه إلي إجابة حاسمة نطمئن لصدقها وسلامتها، لذلك لن نصل إلي إجابة إذا تساءلنا لماذا يأمرنا الله بالهرولة في الحج ؟ ولماذا نطوف حول البيت سبعاً لا تسعاً أو عشراً ؟ هنا الموقف الصواب هو الطاعة والتنفيذ وليس البحث والفحص، وعلي المؤمن أن ينفذ طائعاً لأنها أوامر عقل غير خاضع لتعليلاتنا واستنتاجاتنا ولا للحتمية العلمية أو التاريخية، لأن هذه قواعد عقل ومجتمع بشري لا إلهي .
وبينما العقل الرباني لا يخطئ لكماله، فإن العقل البشري يجرب ويتعلم من الخطأ والصواب، فإذا ما خلط قوانينه في التجريب والتعلم والفهم بالأوامر الإلهية، يصاب بالارتباك لأن مشيئة الرب وأسلوب إدارته للكون هي مسألة لا يمكننا إدراكها .
والدارس للقرآن الكريم والحديث الشريف سيجد ما يشير بوضوح إلي اختلاف العقلين فيما نسميه معجزات، وهي التسمية التي تعني عجز العقل عن فهمها، وهو لم يعجز عن فهمها لعيب فيه أو قصور يشوبه، إنما لأنها منتج عقل إلهي لا ينشغل بقواعد التفكير البشري وسلامتها من عدمه . لذلك تبوء كل محاولات تفسير المعجزات بالفشل، للعجز عن استيعاب العقل البشري لها، والإصرار علي تفسير الإلهي بالعقل البشري، هو كمن يريد أن يدخل العقل الإلهي اللامتناهي وطرائقه داخل العقل الإنساني واستيعابه وإخضاعه لقواعده، وهو الأمر غير الممكن بالمطلق . وربما أدت مثل تلك المحاولات إلي إلحاد البعض، فالملحد الذي يؤمن بعقله إيماناً قوياً يقوم بقياس منتج العقل الإلهي علي قوانين عقله البشري فينتهي إلي الإلحاد .
مخير أم مسير؟
وللإيضاح فكلنا لا ننكر وجود الهواء ولا ننكر أن المسطرة أداة قياس صالحة، لكننا لا يمكن أن نقيس الهواء بالمسطرة، لأن الله خلق الإنسان وأهبطه إلي الأرض لعمرانها ولعبادته، وليس لقياس عقل الإله والبحث فيه بمسطرة العقل البشري، لذلك فإن الموقف السليم هنا هوالعزل بين عالم الربوبية وعالم البشرية، لأنه في حال خلطهما سنخرج بلا نتيجة اوبضرر محقق علي الدين أو علي المجتمع . وقس علي هذا كل اسئلتنا الحائرة التي قسمت مفكرينا فرقاً، معتزلة ومرجئة ومعطلة وسنة وأشاعرة وشيعة وغيرهم، نتيجة لأسئلة تريد إخضاع العقل الإلهي لقوانين العقل الإنساني، مثل السؤال في الجبر والاختيار : هل الإنسان مخير أم مُسير ؟
فهو أولاً يخلط بين فعل الرب ( التسيير ) وفعل العبد (حرية الاختيارالتي تترتب عليها مسئولية الحساب )، فالخطأ يكمن في السؤال، لذلك لا تجد إجابة واحدة تتفق حولها هذه الفرق ، فالرب عنده جنة عمل فيها أنهار اللبن والعسل والخمر وأودعها الحور العين للمتقين، ونحن بعقلنا صنعنا السد العالي وأقمنا مدينة اكتوبر والعاشر والوادي الجديد، وكلٌ له مجاله لا يتداخلان، فلا الجنة مثل مدينة اكتوبر، ولا نحن روينا للرب جنته، ولا هوأشرف علي تخطيط مدننا الأرضية . فقد أُهبط الإنسان مُجبراً للأرض بأمر إلهي ليعمرها ويخلفه فيها بعقله البشري، أما الله فهو في ملكوته يعمل ما يشاء وقتما شاء كيفما شاء، وترك لنا أرضنا نفعل فيها بإرادتنا حتي يمكن حسابنا يوم الحساب، ليري ربنا هل أفلحنا في مهمتنا في الإعمار أم فشلنا؟. وإضافة لمهمة الإعمار فقد قرر تعالي أنه ما خلق الإنس والجن إلا ليعبدوه، وهذه العبادة ليست وفق عقلي ومقاييسه وأحكامه، وليس لي أن أسأل لماذا صلاة الفجر ركعتين وليس خمسة ؟ ولماذا نصوم رمضان ولا نصوم أبريل ولماذا نرجم بسبع حصيات وليس بعشرين ؟ فالجانب الإلهي طاعة فقط، أما عقلنا فهوللفعل الأرضي، للإعمار وإقامة الحضارات، لذلك فما نفعله علي الأرض بعقلنا أمر يختلف عن العبادات التي قررها الرب بعقله، لا يختلطان، لا يلتقيان، بل يختلفان بالكلية . ومن ثم لا يصح تدخلنا في العقل الإلهي، كما لا يصح أن تقحم العقل الإلهي في هندسة الطب أو إقامة الهرم أو هندسة الجينات، فهذا متروك لنا ولن نحاسب عليه يوم البعث والدنيونة ولن يدخل في ميزان حسناتنا أو سيئاتنا.
فإذا كانت قصيدة الشعر تعبر عن فكر مؤلفها وأحاسيسه وتدل عليه، فإن القرآن الكريم يعبر عن الإله وفكر الإله، وليس عن رأي الشيخ القرضاوي ولا ابن تيمية ولا أي من فقهائنا قدامي أو محدثين، لأنهم يفسرون أهداف الله ومقاصده قياساً علي مقاصدنا الإنسانية وعقلنا البشري . فالفكر الرباني لا يلتزم بقواعد لأنه مطلق المشيئة والقدرة اللامحدودة، لذلك فإن أساليب الفكر الإلهي لا ترتبط بالتعليل والتفسير والتبرير والاستدلال والاستنتاج، بل هو يكسر كل ما نعلمه من قوانين التفكير المنطقي السليم بالمعجزات، ولا يخضع لقوانين المنطق البشري، حتي أننا لا نستطيع أن نقول إن العقل الإلهي له منطقه الخاص لأنه الكامل الذي لا يخضع لمنطق، فهوفعال لما يريد دون قواعد ودون تبرير، وغير مجبر ولا ملزم أن يفكر مثلنا أو أن يحدث أمراً يراعي فيه مناهجنا، وأيضاً لا يلزمنا من هذا العقل الإلهي سوي أو امره ونواهيه والطاعة له والإيمان به، هنا السماء تأمر بالتنفيذ وليس بفهم أسرار التعبد، لأن عقل الإنسان لن يفهم تقديرات الرب . أما أساليبه فلن نستطيع بها إخضاع البيئة وتوظيفها، ولن يمكننا تحويل العصا إلي حية ولا تفجير الينابيع بالعصا، ولا إكثار الخير بجعل الصخور تلد نوقاً مثل ناقة صالح، لذلك يكون من الغباء تصور إمكان تتبعنا أسلوب الرب في التفكير والتدبير، لأن الله يقول للشئ كن فيكون، وهوغير أسلوبنا الذي يسير وفق المحاولة والخطأ للوصول إلي الصواب ووفق قوانين منطقية ومنهجية، وبها نستطيع إخضاع البيئة وتوظيفها، وليس بالأسلوب الإلهي والفكر الرباني .
لذلك فإن دعوة مشايخ زماننا لتقزيم العقل البشري وتعجيزه عن الفهم مقارناً بالعقل الإلهي، هوخطأ منهجي ومنطقي جسيم، بينما الصواب هوالإقرار أن هناك عقلين، أحدهما أعرفه وأفهمه هوعقلي البشري وأجهل العقل الآخر الإلهي، وليس أحدهما خاطئاً والآخر صحيحاً، فكلاهما صواب في ميدانه .
الدعاء ليس ملزما
البعض يري أنه بالإمكان التواصل مع الفكر الإلهي بواسطة الأدعية والقنوات له ليفعل معنا علي الأرض فعل التعمير والحضارة ولينصرنا، لكن الإشكال هنا أن الدعاء ليس ملزماً للرب ولا هوفرض عليه يجب أن يلبيه وينفذ المطلوب من الدعاء رضوخاً لقواعد، لأن إرادة الرب لا تخضع لأي إرادة أخري حتي لوكانت دعاء ومذلة أو استرحام، فالمطلق لا يمكن التنبؤ بأفعاله المقبلة وإلا ما كان إلهاً . بينما الإنسان قادر علي استكشاف القوانين الكونية والبيئية وامتلاكها والسيطرة عليها بعقله البشري وحده، وتفعيلها فيما يعود عليه وعلي المجتمع بالنفع . فيتحكم في البيئة ويسيطر عليها ويمكنه التنبؤ بالأحداث المستقبلية والاستدلال عليها وعلي إمكان حدوثها، علي عكس الوضع مع العقل الإلهي غير الخاضع للاستدلال والاستنتاج، فنحن حتي اليوم لا نعرف لماذا رفض الرب قربان قابيل وقبل قربان هابيل، ولا نعرف سر نجاسة الكلب والخنزير، ولا نعرف كيف عبر نبينا ( ص ) في معراجه كل المجرات والكواكب بسرعة أضعاف أضعاف سرعة الضوء دون تجهيزات لضبط الضغط والحرارة والأوكسجين وآلات الدفع وغيره، أو دون أن يتحول العارج بهذه السرعة إلي طاقة، فهذه قوانيننا وما وصلت إليه عقولنا، وهوما لا يتطابق مع تلك الرحلة الإعجازية التي تمت وفق العقل الإلهي وليس الإنساني، ولمزيد من تأكيد الفصل والتفريق بين العقلين أضرب مزيداً من الأمثلة الواضحة البيان، فقد تخير الرب مالك هذا الكون بمليارات أجرامه ومجراته، كوكب الأرض مقراً لبيته، واختار من كل القارات قارة آسيا، ومن بين بيئات آسيا المتنوعة وما تنعم به من أنهار وجنات وخيرات واعتدال مناخ، اختار واد غير ذي زرع بالحجاز المقفر مُفضلاً إياه علي بقية كونه، فضّله علي سويسرا والريفيرا الإيطالية وجبال لبنان ووادي النيل والسين والفرات، إختار أفقر وأجدب بقاع العالم محلاً لإقامة بيته . وهوما يخالف منطقنا نحن البشر، فنحن نفضل الجمال والوفرة والرفاهية والنعيم واللطف والرقة، لكن كل هذا لا علاقة له بالقداسة، فقد اختار الرب ذلك الوادي الملتهب الحرارة قاري المناخ وهو أسوأ مناخات الأرض والغير ذي زرع ومنحه القداسة بإقامة بيته فيه، رغم أنه هوخالق كل البقاع، ومع أنه هو الذي يهب القداسة ويخلقها، وكان يمكنه منح القداسة لأمستردام مثلاً أو لباريس حيث الرقة واللطافة والنعيم والجمال، لكن إرادته أبت ذلك، وأبت أن تربط النعيم الدنيوي بالقداسة الربانية . هذا الاختيار هودعوة لنبذ التعليل للأفعال الإلهية لأنه لا يسير وفق شروطنا، والاستدلال والخيار بين الممكنات المتاحة، فقد يكون الأسوأ في عقل البشر هوالأفضل في العقل الإلهي الذي اختار أسوأ مكان وأجهل شعب في أرضه ليقيم فيه أشرف وأقدس بيت في الدنيا ويجعل من شعبه خير أمة أخرجت للناس، بل اختار له الشكل المكعب المتواضع فهوأبسط شكل هندسي، بجوار ما تزخر به السعودية اليوم من معمار هندسي عظيم في جدة أو الرياض أو غيرها . ولا شك أن النبي إبراهيم عليه السلام كان مُسيراً في هذا الخيار لأنه لواختار بعقله البشري لاختار وطنه الأصلي حيث جنات الفرات ودجلة، لأن العقل البشري له طرقه في المفاضلة والتمييز والاختيار، لذلك كان الأمر لإبراهيم بإقامة القواعد من البيت في الحجاز، وهوما يعني أن للسماء رؤي وفكر يختلف بالكلية عن رؤية الإنسان وفكره .
العالم محكوم بعقلين
وهو الشأن الذي سنلحظه في كل الأديان السماوية، فمنتجها الفكري لا يلتزم بقواعد العقل البشري وقوانينه، ولا تقبل التحاور مع هذا العقل . وعليه فإن العالم محكوم بعقلين، عقل رباني لا يعرف التعليل والاختيار والبحث والاستدلال، وعقل بشري يبحث عن المصلحة والأفخم والأجمل والأمتع والأكثر إقناعاً ومنطقاً . وعليه فالإنسان غير ملزم بعمل مثل الخالق لاختلاف المنهجين ولأن للرب مقاييسه الخاصة، فقد نظر إلي أقفر وأفقر البيئات وأسوأها مناخا وبشرا (مكة ) ليضع فيها بيته علي الأرض، بينما لوكان لنا الخيار لاخترنا هاواي أو فيينا أو فارنا، وبذات المقياس لوقال المشايخ عن شخص أنه كافر، لربما اختاره الرب كأفضل عباده الصالحين . لذلك عندما يتطوع شيخا ليقول إن الله سيقبل الشيخ فلان لأنه رجل دين وسيرفض الفنان أو الكاتب أو المبدع فلان بسبب كتابته النقدية مثلاً، فهو يرتكب أكثر من وزر وأكبر من خطأ، أولاً أنه يسلب الله حقه فهوالوحيد الذي يستطيع الحكم علي الضمائر بالكفر وما يتبعه من دخول جهنم، أو بالإيمان وما يتبعه من دخول الجنة، الشيخ هنا يلزم الله بقرار عقله البشري الذي يختلف بالكلية عن عقل السماء، فالرب لوعمل مثل الشيخ وبرر وعلل، لا يصبح إلهاً، وتسقط ألوهيته، لذلك فإن المفكرين من مشايخ زماننا يفرضون قرارهم علي العقل الإلهي ويحرمون ويحللون ليتشابه عقل الشيخ وعقل الإله ليصبحوا آلهة مثله .
ويتحول من يعترض علي المشايخ إلي كافر، بينما التكفير هو افتئات علي أهم صفات الله وإرادته، لأن قبول إيمان إنسان من عدمه يعود لمشيئة واحدة فقط هي المشيئة الإلهية التي لا يعلمها أياً من البشر، لا شيخ ولا كاهن ولا عارف بالله. هذا ناهيك عن مخالفة مشايخ التكفير بل ونقضهم الآية الصريحة بقرار رباني يؤكد أن الله ما خلق الإنس والجن إلا ليعبدون. مثلها بالضبط مثل " كل في فلك يسبحون "، فالبشر جميعاً والجن والأفلاك والمجرات كلها تعرف الله وتسبح مشيئة الخالق، لأنهم جميعاً لو لم يعبدوا ويسبحوا لحدث خلل في الأفلاك وانهار نظام الكون، وما نراه أحياناً صادماً لمشاعرنا وتعصبنا وننعته بالكفر إنما هو لون من العصيان، فكل البشرية تعرف أن للكون خالقاً منذ الإنسان البدائي، ومن يتهم غيره بالكفر فإنه كمن يكذب الآيات القرآنية التقريرية بالقرآن، التي تؤكد أن الله خلق الخلق ليعبدوه. فالله قد أمر عباده برحمة عباده وأسمي نفسه الرحمن، بقرار جعل البوذي يرحم والمسيحي يرحم واليهودي يرحم والمسلم يرحم، أمر بالتعاطف وكل متدين يتعاطف، هندوسياً كان أم سيخياً أم مجوسياً، ونص الآيات يشهد للبشرية جميعاً أنها تعرف الله وأنها تعبده، فمن كفّر غيره فهو منكر لمعلوم من الدين بالضرورة، فالله يقول إنه خلق الخلق كي يعبدوه، ومشايخنا يقولون عن البعض أنهم كفار لا يعبدونه، بينما وجود كافر واحد بمعني المنكر للألوهية ولوجود الذات العليا، يسقط مشيئة الله القاضية بمعرفة كل خلقه به حتي جمادات الأفلاك، وإيمان الكل به وعبادته وإن كان كل ٌ علي طريقته.
وعليه فإن النظر لمن يختلف عنا في طريقة عبادته أو معرفته بالرب الخالق القدير بحسبانه كافراً، هو خطأ في تفسير مُراد الرب ومقاصد كماله، وعندما نتحاور في شأن ديني نختلف حوله قد يجوز القول إن أحد طرفي الخلاف كافر برأي الطرف الآخر وليس كافراً بالله، لأن الخلاف في الواقع هو بين طرفين بشريين وليس أحدهما هو الله، هو كفر رأي برأي، كفر بشر ببشر وليس برب البشر، لأنه سيكون خلافاً حول تفسير كلام الرب حسب عقل كل منهما وحصيلته المعرفية، لكنه لا يفسد بين أحد المختلفين وبين ربه، لأن الاختلاف بشري والحوار بينهما إنتاج عقلهم البشري وليس الله، فالخلاف في واقعه يقع علي آراء بعضهم البشرية وليس علي الله، وخلافات المذاهب الدينية كلها مستحدثات بشرية، أما الإيمان برب خالق أحق بالعبادة والقدسية فلا خلاف حوله، فنحن لا نختلف علي أن الله قد قال هذه الآية أم لا ؟ إنما نختلف علي فهمها بعقولنا التي ليست كعقل رب الأرباب وملك الملوك.
وكلا الرأيين المختلفين منتج عقل بشري مصنوع لإدارة شئون الدنيا وليس لصنع أديان، لذلك فالمكفرين يستخدمون الأداة في غير محلها، فالفأس مصنوع لنفتح به الأرض وليس لنفتح به باب البيت، فإذا استخدمناها في غير وظيفتها انتهت بتكسير الأديان إلي مذاهب وفرق، فهم كمن يستخدم الحقيبة الدبلوماسية لتهريب المخدرات.
وإذا كان محمد النبي (صلي الله عليه وسلم) بجلال قدره لم يفعل فعلهم ولم يكفر مسلماً، وكان ينتظر دوماً قول الله فلا يقول من عندياته لأنه بشر وعقله عقل بشر لا يصنع ديناً. فمن العجيب أن تري اجتراء مشايخ زماننا الذين يجيبون علي أي سؤال في أي شأن، نسألهم عن زرع الأعضاء فوراً يقولون «حرام»، يقول الشيخ ما لم يعرفه محمد (صلي الله عليه وسلم) ليقوله، ويعمل كل منهم لنفسه ديناً جديداً يسميه مذهباً أو فتوي كما لو كانوا آلهة، بينما النبي محمد (صلي الله عليه وسلم) لم يصنع لا ديناً ولا مذهباً ولم يكن إلا عبداً بشراً مُبلغاً لا مبتدعاً. إن المهمة المكلف بها العقل البشري من قبل الله هي الإعمار بتآزر البشرية وليس بتكفيرها، فعقلي مخلوق كي أعمل به في الحقل والمصنع وليس في الدين، لذلك اتسم الإسلام بخصوصية وفرادة هي أنه لا يعرف رجال دين ولا يعترف بكهنوت يبحث في شئون تخص الله وهم بشر. فوظيفة العقل البشري هي التعمير والتعبد، وفي التعبد يمتنع الجهد العقلي بالمرة، بدليل أن المبشرين بالجنة معظمهم كانوا من الأميين الذين لا يستطيعون بذل الجهد العقلي. فالدين هو أن نؤمن به لا أن نحاوره، الدين هو أن أؤمن وأصدق أنه خلق من السماوات سبعاً ومن الأرض مثلهن، ولا أسأل لماذا لم يجعلهن تسعاً أو عشراً ؟ ولا أدخله في العلم البشري الذي لا يقول بسماء أصلاً ويقول بطبقات جيولوجية للأرض لا سبع أراض، لذلك فإن خلط الإلهي بالبشري هو ضار بحياتنا وبديننا في آن.
الفطرة
يقول المصطفي (صلي الله عليه وسلم) إن المرء يولد علي دين الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه، وهو ما يعني أن الإنسان يولد مفطوراً علي معرفة الخالق مطبوعاً في عقله وروحه، ثم بعد ذلك يأتي دور النبوات التي تأخذ هذا إلي اليهودية وذاك إلي المسيحية وآخر إلي المجوسية وغيره إلي البهائية وغيرهم إلي البوذية. . إلخ. فالإيمان بالله فطرة واتباع أحد الأنبياء هو اكتساب، والمؤمن بالله يضيف إليه الإيمان بنبي واحد علي الأقل، ومن هذا النبي يستقي طرق العبادة للإله الخالق وتعاليمها وشروطها التي تشكل له دينه، ومن ثم فإن الأسرة والمجتمع هما من يقوما بإضافة النبوة للفطرة في طفولة الإنسان، ومن ثم يصبح السؤال حول الإيمان والكفر في صيغته السليمة : هل من المعقول أن يتم تهويد أو تمجيس من هو كافر أصلاً بوجود الله الخالق ؟ الإجابة بالقطع أن الإيمان بالله فطري فلا يوجد إنسان كافر بالله حسب الحديث والآيات الكريمة، فكل إنسان يولد مؤمناً يقبل الرب داخل روحه، ثم يقوم المجتمع بإكسابه قبول أحد أنبياء هذا الرب.
ولأن خالق الكون رب واحد وحيد أحد، فإنه حسب الآيات " ما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون "، لن يخلق من ينكر وجوده ويكفر به. فمثل هذا الإنكار ليس فيه صالح للمخلوق ليقدم عليه، ولن يضر بالخالق الموجود قبل ذلك المخلوق، وعليه لا يمكن للمخلوق إنكار الخالق، ولو أنكر فلن يزيح الخالق أو يحيله من موجود إلي لا موجود، لأن الثمرة لا يمكنها إنكار الشجرة، وحتي إن إنكرتها فهذا لا يقضي علي الشجرة، وفي الحالين فإن الإنكار غير مجد لكليهما، فالكفر شئ بلا قيمة ولا معني لأنه غير ممكن عقلاً أو ديناً، ووجود الكفر من عدمه سيان، فهو لا يعطل مسيرة الكون ولا يزيد من فعاليتها أو ينقصها، لأن الله لم يخلق من ينكره.
ناهيك أنه قبل خلق البشر لم يكن هناك شئ اسمه الكفر، وهو ليس من الأسماء التي علمها الله لآدم لأنه لن يقول لآدم أنا غير موجود، ولو فرضنا جدلاً أن الله علم آدم اسم الكفر فهو ما يعني أنه لا وجود لا قبل آدم ولا بعد آدم ولا لآدم ذاته، فيكون هو العدم واللاشئ واللاوجود، وهو غير الحاصل في الوجود. وهو ما يعني أن الكفر معناه فناء كل الأشياء والرب والكينونة جميعاً، لذلك تكون النتيجة المحتمة أنه لا شئ اسمه الكفر بالله، إلا إذا كان خللاً في تركيب المخلوق. أما لفظة كافر الواردة بالقرآن فلا تعني الكفر بالله إنما تعني المعصية بأوامر ونواهي الإسلام وليس الله، ولا يعني غياب الإيمان بالله الخالق القدير داخل عقل المخلوق، ولا يعني غياب الرب عن الوجود.
شروط الإيمان
هنا لابد أن يواجهنا من يقول إن للإيمان شرطين، الأول أن تؤمن بالله خالق الكون، والثاني أن تؤمن بنبي بعينه باعتباره المتحدث الرسمي باسم الرب، وأن هذا المتحدث باسمه هو سيد للآخرين يأمرهم ويتسلط عليهم ويقودهم حيث يري، وهكذا فإن هذا الشرط الثاني يعني أن هناك شريكاً بشرياً في الإيمان بالله ما لم تقر به يطلقون عليك لقب (كافر)، حتي أن بعض هؤلاء الشركاء تعلو مكانتهم مكانة الرب الخالق نفسه، فبعض هذه الأديان تتسامح في سب الله لكنها لا تتسامح في سب هذا الشريك، وبعض الأديان أعطت الشريك البشري صفات تعلو علي صفات الخالق ومن هنا ينشأ ما يسمونه الكفر بالخالق، وتكون المشكلة أفدح عندما يرث البعض عن هذا الشريك سيادته وقيادته للمجتمع، مشكلين طبقة كهنوتية لا علاقة لها بكفر ولا إيمان بل ببشر لهم أطماعهم ونزواتهم الدنيوية.
والمطالع لآيات القرآن الكريم سيجده يقر في آيات كثر بإيمان وثنيي مكة والجزيرة بالله الخالق مثلهم مثل اليهود والمسيحيين " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض سيقولون الله قل فأني تؤفكون "، وكفرهم يعني أنهم جعلوا بينهم وبين الله وساطة من الناس الصالحين التقاة يتشفعون للناس عند الله لأنهم الأطهر، وبمرور الوقت اقاموا لهذا الشفيع مقاماً وتمثالاً وتقدموا له بالدعوات ليرفعها لرب العالمين، لذلك أسماهم الله بالمشركين لأنهم أشركوا مع الله من هم دونه من خليقته، وأسماهم كفاراً لا بمعني الكفر بالله، لكن بمعني الإيمان بكهنوت وقداسة لبعض البشر إضافة لإيمانهم بالله.
حتي الإنسان البدائي في وحشيته الأولي كان قلبه يستشعر وجود هذا الخالق ويعبر عن هذه المعرفة بالحب له والشكر والاعتراف بقدرته فيطلب منه ما يريد بالدعاء والتراتيل، وأطلق كل مجتمع بشري علي الخالق اسماً، فتعددت الأسماء والرب واحد، ووصفه بقدر ما سمح له عقله وفكره وخياله، لذلك لم تعرف البشرية شعباً لم يتعبد ولم يصل ولم يحج لمكان مقدس ولم يصم ولم يعرف الخير ويميزه عن الشر، وأن الخير يرضي الإله وأن الشر يبغضه. . بل أزيد هنا في القول ما لن يعجب البعض فأقول : إنه حتي إبليس لم يكن كافراً بالمعني الرائج الآن في ثقافة المسلمين عن معني الكفر، إنما كان من الكافرين بمعني العصيان لا بمعني عدم الاعتراف أو الإنكار، فهو يعرف ربه، وحاوره وتحدث معه، فهو لا ينكره، إنما هو قد عصاه، ومثله آدم أيضاً كان يعرف ربه ويحاوره ويتحدث معه ثم عصاه بدوره، الأول رفض السجود لآدم والثاني أكل الثمرة المحرمة وكلاهما يعرف الله ولا يكفر به، وكلاهما عصي أوامر الله علي التساوي، وهنا يمكن قراءة الآية " كان من الكافرين " ليس بصيغة الجمع، لأنه لم يكن هناك كافرون آخرون حينذاك، وربما هي في صيغتها الأولي قبل التشكيل والتنقيط علي يد أبي الأسود الدوؤلي، كانت بصيغة المثني وهي الأكثر قبولاً واتساقاً مع الموقف، لأنه لم يكن في الوجود من عصي أمر ربه غير اثنين بلا ثالث هما إبليس وآدم، وما عدا ذلك فيما أخبرنا القرآن كان كل الخلق ملائكة وأجراماً وأفلاكاً تعبد الله وتطيعه وتسبحه وتسجد له. خاصة إذا ما أخذنا بالحسبان أن إبليس بعد عصيانه طلب من الله مد الأجل وأن يجعله من المنظرين .
ولا يعقل أن يطلب ذلك من ينكر وجود الله كفراً كما يشيعونها اليوم. وهنا ستنشأ مشكلة لأن إبليس عصي وعوقب بالتكفير، وآدم عصي ولم يعاقب ذات العقوبة، وهو ما يتنافي مع مفهومنا عن العدالة، وهو ما يحيلنا مرة أخري لتأكيد أن الله لا يعمل وفق منطقنا وفهمنا إنما يعمل بمشيئته المطلقة التي يسلم بها المؤمن، لعدم إمكان تطابق العقل البشري مع العقل الإلهي.
حتي فرعون نفسه كان يؤمن بضرورة وجود إله، ولأنه لم ير أمامه في الدنيا من هو في سلطانه وقوته وقدرته وغناه، فقد رأي نفسه هذا الإله، لذلك دخل المباريات مع النبي موسي (عليه السلام) لإثبات قدرات إله كل منهما.
انقسام
وإعمالاً لما سلف فإن العقل البشري لم يخلقه الرب لتصميم الأديان والملل والنحل والمذاهب والإفتاء، والدعوة إليه بالقهر وعدم الحكمة والموعظة الحسنة، وقد أثبت لنا التاريخ أن تدخل العقل البشري في منتج العقل الإلهي، أدي لإنقسام الأديان وظهور الفرق والمذاهب المتناحرة والمتحاربة والمتقاتلة، حتي قام الصراع بين أتباع الدين الواحد، وتكفير كل مذهب لغيره وكل دين لغيره، رغم إقرارهم جميعاً بوجود رب خالق واحد، وهو ما يعني أن كل هذا الصراع هو شأن بشري يتعلق بالبشر وأهوائهم وأطماعهم ومكاسبهم وتجارتهم بدين الله. ومنذ تم إقحام الدين في السياسة عانت البشرية من ويلات الحروب الدينية، وفي سبيل مكاسب الكاهن الواحد كان الملايين يموتون قتلي معتقدين أنهم يموتون في سبيل الله، بينما كانوا يموتون في سبيل المزيد من ضخ النعم الدنيوية لخزانة الكاهن أو رجل الدين.
والمؤمن الصادق هو من يعلم أن العقل البشري غير مصمم لإنتاج اديان، وعندما يفعل ذلك ينكشف ويتعري ويقدم بدعاً لا ديناً، ويعلم ان الدين شأن إلهي لا دخل للبشر فيه ولا إرادة لهم في صنعه. ويعلم أن عقلنا البشري هو للإعمار وليس لإقامة الأديان والارتزاق منها. ولأن العقل البشري غير مؤهل لذلك لزم إبعاده عن الدين وإبعاد الدين عنه، بالتخلي التام عن وسائط الكهنة والمشتغلين بالدين من البشر.
وهكذا فإن وحدة الرب ووحدة الإنسانية تحتم وحدة الدين الذي هو علاقة خالصة بين الخالق والمخلوق الذين هما عنصرا الإيمان، ومن هنا فإن ما جاء في صحف إبراهيم هو ما جاء في ألواح موسي هو ما جاء في بقية التوراة، وفي المزامير، وهو ما جاء في القرآن، والاختلاف بينهم اختلاف سببه زمان كل دين ولغته ومستواه المعرفي ومعارف ناس ذلك الزمان وعاداتهم وتقاليدهم وظروف بيئتهم التي يجب أن يتناسب معها ليكون مفهوماً، وما عدا ذلك فكلها تتفق علي معان أساسية، توحد أكثر مما تفرق، لكنها مرة أخري مشيئة العقل الإلهي الذي أراد هذا التعدد ليجعلنا شعوباً وقبائل وأمماً لنتعارف وليس لنتحارب ويقتل بعضنا بعضاً، بتهمة لم تكن في القاموس المفهومي للدين، تهمة الكفر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.