بناء الدولة الوطنية هو مشروع الحركة الوطنية المصرية منذ سنة 1919 ولا يزال استكمال دعائمها هو ضالتنا حتي الآن. الوفد ليس لديه مشروع أساسي سوي استكمال بناء دعائم الدولة الوطنية في مصر، هذا هو مشروع الوفد الذي كافح من أجله طوال تاريخه. الدولة الوطنية هذه هي دولة كل مواطنيها بغض النظر عن الدين والجنس والعراق والطبقة الاجتماعية، الدولة الوطنية هي دولة محايدة تجاه معتقدات مواطنيها الدينية والفكرية لكنه حياد إيجابي. الدولة الوطنية هي وعاء جامع للجميع لذلك قال سعد زغلول «الدين لله والوطن للجميع». ولأن حياد الدولة الإيجابي تجاه معتقدات مواطنيها من أجل تحقيق المساواة هو العلمانية. لذا فالدولة الوطنية علمانية بالتعريف. ولا يصح أن ينص دستورها علي دين رسمي أو يعتبر دين فريق من مواطنيها دينًا رسميا حتي لو كانوا أكثر عددًا. وعندما يقول رئيس الوفد إن الوفد ليس حزبًا علمانيًا فهو هنا يلغي مشروع الوفد الأساسي (الدولة الوطنية الجامعة). لذلك كان الأستاذ محمد عبد القدوس (الإخواني المعروف) محقًا عندما قال للأستاذ سامح مكرم عبيد سكرتير مساعد الوفد في حواره المسجل والمنشور في روزاليوسف الثلاثاء 21/9 (لا خلاف جوهريا الآن بين الوفد والإخوان لأن رئيس الوفد قال إنه ليس علمانيًا وخصوصا أن الوفد يرفض إلغاء المادة الثانية من الدستور ويدعو لبقائها. لكن تعلوا نوضح الأمور للأخ عبد القدوس وللإخوان، والمادة الثانية من الدستور تنقسم إلي ثلاثة أجزاء. الجزء الأول: الإسلام دين الدولة. الجزء الثاني: اللغة العربية لغتها الرسمية. الجزء الثالث: مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. وفي الحقيقة نحن في الوفد ليست لدينا مشكلة سياسية مع الجزء الثاني ولا الجزء الثالث. فالوفد لم يطالب يومًا بعلمانية المجتمع حيث اقتصرت مطالبة الوفد عبر تاريخه علي علمانية الدولة كوعاء جامع وقال سعد باشا زغلول قولته المشهورة التي اختزل فيها علمانية الدولة (الدين لله والوطن للجميع). أما مسألة أن تكون القوانين متوافقة مع مبادئ الشريعة الإسلامية فقد أيد الوفد ذلك إبان فترة رئاسة فؤاد سراج الدين. لذلك فالوفد ليس لديه مشكلة مع عبارة (مبادئ) الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع ومعروف طبعًا أن المصدر الرئيسي ليس معناه المصدر الوحيد أو نفي ما دونه من المصادر. لكن علينا إدراك أن فؤاد سراج الدين غير النحاس في موقفه من جماعة الإخوان ضد الوفد تحالف الوفد والإخوان المسلمين، وهذا معروف تاريخيا، راجع كتاب د. رفعت السعيد (مصطفي النحاس السياسي والزعيم المناضل). لذلك فبينما كانت فترة رئاسة النحاس حربًا شرسة من الإخوان إبان رئاسة سراج الدين للوفد. ورغم كونه تحالفًا تكتيكيا لم يتنازل الوفد فيه عن (علمانية الدولة) (مكتفيا برفضه علمانية المجتمع حيث أكد لهم أن الوفد ضد أي قانون يتضارب مع الشرعية الإسلامية أي أن الوفد له مرجعية دينية إسلامية عند سن القوانين). حيث كان الغرض من التحالف بالنسبة للوفد أن يتجاوز الوفد عقبة ال 8% كشرط لتمثيل أي حزب في البرلمان وقتها إلا أن البعض رأي في تحالف الوفد أكبر دعاة الدولة الوطنية في مصر وصاحب شعار الدين لله والوطن للجميع ومؤسس فكرة الحياد الديني للدولة مع الإخوان المسلمين (الذين يرفضون فكرة الحياد وبالتالي المساواة) نوعًا من الانتهازية السياسية تضع المصالح الحزبية الضيقة قبل المصالح الوطنية الواسعة وتنظر لجماهيرية زائفة علي حساب مبادئ راسخة وثوابت خالدة وتفضل حشد أصوات الناخبين والحصول علي حفنة من مقاعد البرلمان بدلاً من الحفاظ علي وطن قد يضيع بأكمله إذا لم نقف جميعًا ضد دعاة الإسلام السياسي باعتبارهم دعاة تمييز وتفريق يرفضون المساواة في المجال الوطني بين المصريين فالمرأة غير الرجل والقبطي غير المسلم..إلخ. أما مشكلتنا في الجزء الأول (الإسلام دين الدولة) فمن وجهة النظر السياسية والوطنية والحقوقية لاينبغي أن ينص الدستور علي دين رسمي وإلا صارت الديانات الأخري للمواطنين غير رسمية حتي وإن كثر أتباع ذلك الدين في العدد. حيث إن هذا الجزء يلغي حياد الدولة (علمانيتها) ويرسخ التمييز والأفضلية بين المواطنين في المجال الوطني الجامع القائم علي المساواة بين الجميع. لذلك فأول دستور لمصر (اللائحة الوطنية) الذي صنعه روادنا الأوائل وعلي رأسهم محمد شريف باشا الذي أقرته جمعية وطنية منتخبة مادة مادة في البرلمان في مارس 1882 لم يذكر موضوع الدين من قريب أو بعيد (فالوطن للجميع). وهو الدستور الذي شيد وفق جمعية تأسيسية منتخبة وينفرد بهذا بين دساتير مصر السبعة 1882، 1923، 1930، 1956، 1958، 1964، 1971 . وقد يقول قائل إن كلمة الإسلام في النص الدستوري (الإسلام دين الدولة) تعني دين جميع الأنبياء وليس (ديانة سيدنا محمد ص). فنوح عليه السلام كان مسلمًا ودعا إلي الإسلام (فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا علي الله وأمرت أن أكون من المسلمين) سورة يونس 10: 72 . وإبراهيم عليه السلام كان مسلمًا دعا إلي الإسلام (ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا) آل عمران 3: 67 . وبنو إسرائيل مسلمون (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهًا واحدًا ونحن له مسلمون) سورة البقرة 2: 132. وأنبياء بني إسرائيل والربانيون والأحبار مسلمون (إنا أنزلنا التوراة فيها هدي ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار). والسيد المسيح (في مفهوم القرآن طبعًا) مسلم دعا إلي الإسلام وحواريوه مسلمون أيضًا (فلما أحس عيسي منهم الكفر قال من أنصاري إلي الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون) آل عمران 3: 53 . وأن دين الله واحد وشرائعه شتي (شرع لكم من الدين ما وصي به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسي وعيسي أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) الشوري 42: 13. (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا) المائدة 5: 48 أي أن الدين واحد ولكل نبي طريقة وسبيل في دعوته إلي الله حسب ظروفه وبيئته. لكن تفسير معني كلمة (الإسلام) في عبارة (الإسلام دين الدولة) وفقا للمعني السابق أن الإسلام هو دين كل الرسل فهذا خلاف فقهي اختلف فيه رجال الدين فمنهم من هو مع المعني السابق ومنهم من يقول بأن الإسلام دين سيدنا محمد ولأنها منطقة خلافية ولم تحسم لدي علماء الدين عبر التاريخ هل الإسلام هو دين كل الرسل أم دين سيدنا محمد فقط، فلذلك لا يمكن الأخذ بتفسير البعض لعبارة الإسلام دين الدولة بأنه دين جميع الأنبياء لكن حتي وإن فرضنا ذلك فرضاً جدلاً فأين موقع غير الموحدين من المواطنين المصريين في هذا الدستور سيصبحون أيضا غير رسميين. لذلك صمت أول دستور لنا عن حكاية (الدين الرسمي). وعندما زار الزعيم الهندي نهرو مصر إبان حركة الجيش 1952 طلب زيارة الزعيم مصطفي النحاس وأثناء حوار النحاس باشا للزعيم الهندي طلب منه أن ينصح ضباط يوليو بأن يقيموا جمهورية (علمانية) وقد سجل ابن النحاس (إبراهيم باشا فرج) نص الحوار بين الزعيمين ونشره في صحيفة الوفد يوليو 1989 النحاس باشا يعرف أن الدولة الوطنية كي تكون (وطنية) لابد أن تكون (علمانية) ولابد أن تنظر إلي أفرادها باعتبارهم مواطنين لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات. دولة لا تفرق بين مواطنيها ولا تميز بينهم لأي سبب كان (دين/ جنس/ عرق/ طبقة اجتماعية/ ..إلخ). لذلك أن يوافق رئيس الوفد علي المادة الثانية بنصها الحالي وبأجزائها الثلاثة. وأن يؤكد أن الوفد ليس حزبًا علمانيًا (أي أنه ضد علمانية الدولة وضد علمانية المجتمع في آن معا). وإذا كان فؤاد باشا قد تمسك بعلمانية الدولة - حيادها - ورفض علمانية المجتمع (أن تسن القوانين دون مرجعية دينية إسلامية) فإن الدكتور البدوي قد رفض الاثنين (علمانية الدولة) و(علمانية المجتمع) وهو موقف يتجاوز التنازل الكبير للإخوان ويصل إلي حد التطابق معهم، فهم أيضا ضد علمانية الدولة والمجتمع.. وهنا نستطيع القول إن الإخواني محمد عبد القدوس كان محقًا عندما أكد لسامح مكرم عبيد سكرتير الوفد أنه لم يعد هناك خلاف جوهري أو فرق بين الوفد وجماعة الإخوان المسلمين لذلك كان خلافنا واختلافنا مع الدكتور البدوي رئيس الوفد (الذي نحمل له كل التقدير والاحترام) فنحن لا نحارب طواحين الهواء وإنما نختلف وسنظل نختلف لأننا وفديون ولقد تعلمنا منه ومن الدكتور محمود أباظة كيف نختلف ولا نعرف المجاملة عندما تمس الثوابت الوطنية نحمل المسئولية عن أجدادنا ونريد استكمال دعائم الدولة الوطنية الجامعة التي هي ضالتنا وحلمنا الكبير والتي هي علمانية محايدة بالأساس تجاه معتقدات مواطنيها.