لا تعرف «ام حسن» كم عمرها، لكن ملامح وجهها، وجسدها الكهل الصغير يشير الي انها قد تجاوزت السبعين، وتظهر عليها معالم الزمن وما كابدته في حياتها من شقاء. تجلس السيدة العجوز صبيحة كل يوم في سوق حي «بولاق الدكرور» بالجيزة، وليس امامها الا صحن تبيع فيه «الجبنة القريش» هو مصدر رزقها الوحيد قائلة «لو منزلتش مين هيصرف علي؟». تعيش «أم حسن» بمفردها رغم ان لديها 3 أولاد، لكنها كما تقول «مبشفش منهم حدّ»، أما زوجها فقد توفي قبل أشهر بعد أن بلغ من العمر أرذله، ولأنه لم يكن الا عاملا «أرزقيا»، فإن السيدة العجوز لم تعرف الطريق الي الحصول علي معاش من الدولة يعينها علي عوز الحياة التي تعيشها »علي القدّ« كما تقول، او بجنيهات قليلة في تعبير آخر. «أم حسن» ليست الوحيدة التي تعيش علي «الجبنة القريش»، فهناك نساء أخريات من اعمار مختلفة، تجدهن حاضرات في الميادين العامة، علي الطرقات، في الاسواق الشعبية، وامام المؤسسات الحكومية وقت خروج الموظفين، يبعن الخضار والجبنْ والحمام.. حالة تنتشر في ارجاء القاهرة لنساء ريفيات يأتين من قري مجاورة، كل صباح، محمّلات ببضاعتهن البسيطة، يبحثن عن قوت يومهن الذي يساعد في سد رمق أسرة كاملة، قد يزيد عدد افرادها علي الخمسة، في ظل غياب عائل الأسرة أو عجزه عن العمل. «علي القدّ» هو نفسه التعبير الذي تستخدمه «ام أدهم» لوصف نمط حياتها عند سؤالها إذ يخرج لها يوميا مما تبيعه ما يكفي لإعالة أطفالها الستة بعد ان تدفع منه إيجار غرفتها البسيطة ومصاريف سفرها الدائم. تسافر «ام ادهم»، مع أخريات، من الفيوم الي الجيزة مع بداية كل اسبوع، وتقول «نأتي الي هنا يوم السبت ونعود الي الفيوم يوم الاربعاء»، في رحلة أسبوعية تبدأ بجمع ما لدي جيرانها من بيض وحمام ودواجن بالاضافة الي الجبنة الفلاحي «القريش»، ثم تنطلق في الثانية بعد منتصف الليل لتصل عند السابعة صباحا وتبدأ يومها في السوق. تعول «ام ادهم»، اسرة من ستة أبناء اضافة الي زوجها المسن غير القادر علي العمل، وفوق هذا وذاك فإنها كما تقول «مضطرة لتأجير غرفة هنا واقعد فيها، مقدرش اروح الفيوم كل يوم وارجع». وتضيف «ام ادهم» انه لم يكن ليدفعها للعمل والسفر هذه المسافة الطويلة و«الشحططة» الا العوز والحاجة، خاصة ان «عمل الست عندنا عيب»، لكنها «مضطرة» ولا شيء يدفعها الي ان تستعر أو تتنكر لعملها، قائلة «انا فخورة بشغلي، انا مش بعمل حاجة عيب». حُكم البعض علي عمل المرأة الريفية بأنه «عيب» يعتبره الدكتور حسنين كشك، الخبير الاجتماعي في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، نوعا من «الترف في ممارسة الحكم علي هؤلاء السيدات»، ويضيف: «العيب هو ألا يجد الناس ما يأكلونه. خروج المرأة للعمل هو ضرورة للانفاق علي اسرتها في غياب العائل» مشيرا الي ان النظرة الي عمل المرأة تغيرت كثيرا في المجتمع الريفي حيث ان «دور المرأة يتزايد، منذ زمن، في الخروج للعمل بجانب زوجها في الزراعة او بمفردها». ورغم غياب إحصاءات دقيقة عن نِسب الاناث العاملات في البيع الجائل، نظرا لدخول هذه الاعمال تحت فئة القطاع غير الرسمي الذي لا تشرف عليه الدولة ولا تُعرف عنه ارقاما واضحة، الا ان تقريرا أصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بمؤشرات عمالة المرأة في مصر لعام 2008، أشار الي ان الاناث، من سن 15-64 سنة، المشتغلات في القطاع غير الرسمي يمثلن نسبة 47.9% من عمالة الاناث في مصر بعدد يجاوز 2.1 مليون سيدة - فتاة، تعمل 13% منهن، او ما يقارب 235 ألف سيدة - فتاة، في الحضر، في حين تتركز البقية في الريف، مقارنة ب6.9% فقط عام 1995، مما يوضّح الطفرة التي حدثت في إقبال المرأة علي العمل بالقطاع غير الرسمي في الحضر. ويشير التقرير الي ان نسبة النساء اللائي يعملن لحسابهن الخاص، ولا يستعنّ بأحد، تصل الي 27.4% من العاملات في الحضر. ويرجع كشك هذه الزيادة في نسب دخول النساء لسوق العمل الي الظروف الاقتصادية الخانقة التي تواجهها الاسرة المصرية خلال العقود الأربعة الماضية، «ما يحمّل المرأة اعباءً إضافية». وبحسب تقرير لمنظمة العمل الدولية عن مؤشرات عمالة النساء في عام 2009، فإن العمالة المهاجرة داخل مصر، من الريف للمدينة، تشكل جزءا اساسيا من نسبة النساء المعيلات، التي تتراوح بين 22-33%، وتتجه معظمهن للعمل في القطاع غير الرسمي في مهن مهمّشة، دون أدني حماية وفق أي قانون، ونظرا للظروف الاقتصادية الصعبة فإن بعض الاسر تلجأ الي تشغيل ابنائها مما ينتهي بترك الاطفال لمدارسهم وعدم اكمالهم تعليمهم. لكنّ ليست كل الريفيات يقبلن بأبناء أنصاف متعلمين، «ام عبير» مثلا التي لا تختلف قصتها كثيرا عن الاخريات، عازمة علي ان تكمل بناتها دراستهن حتي يجدن حياة أفضل في المستقبل بمساعدة منها ولو كانت ضئيلة بالنظر لدخلها القليل.