مد فترة تسجيل الطلاب الوافدين بجامعة الأزهر حتى مساء الأربعاء    محافظ الإسماعيلية يوافق على تشغيل خدمة إصدار شهادات القيد الإلكتروني    حماس ترفض زيارة الصليب الأحمر للأسرى في غزة    وسائل إعلام أمريكية تكشف تفاصيل الاتفاق بين واشنطن وتل أبيب على اجتياح لبنان    ناصر منسي: هدفي في السوبر الإفريقي أفضل من قاضية أفشة مع الأهلي    ضبط نسناس الشيخ زايد وتسليمه لحديقة الحيوان    انخفاض الحرارة واضطراب الملاحة.. الأرصاد تعلن تفاصيل طقس الثلاثاء    أحمد عزمي يكشف السر وراء مناشدته الشركة المتحدة    صحة دمياط: بدء تشغيل جهاز رسم القلب بالمجهود بالمستشفى العام    للمرة الأولى.. مجلس عائلات عاصمة محافظة كفر الشيخ يجتمع مع المحافظ    "مستقبل وطن" يستعرض ملامح مشروع قانون الإجراءات الجنائية    فعاليات الاحتفال بمرور عشر سنوات على تأسيس أندية السكان بالعريش    بيسكوف: قوات كييف تستهدف المراسلين الحربيين الروس    بعد 19 عامًا من عرض «عيال حبيبة».. غادة عادل تعود مع حمادة هلال في «المداح 5» (خاص)    «إيران رفعت الغطاء».. أستاذ دراسات سياسية يكشف سر توقيت اغتيال حسن نصر الله    كيفية التحقق من صحة القلب    موعد مباراة الهلال والشرطة العراقي والقنوات الناقلة في دوري أبطال آسيا للنخبة    الأربعاء.. مجلس الشيوخ يفتتح دور انعقاده الخامس من الفصل التشريعي الأول    للمرة الخامسة.. جامعة سوهاج تستعد للمشاركة في تصنيف «جرين ميتركس» الدولي    ضبط نصف طن سكر ناقص الوزن ومياه غازية منتهية الصلاحية بالإسماعيلية    مؤمن زكريا يتهم أصحاب واقعة السحر المفبرك بالتشهير ونشر أخبار كاذبة لابتزازه    تفاصيل اتهام شاب ل أحمد فتحي وزوجته بالتعدي عليه.. شاهد    الرئيس السيسي: دراسة علوم الحاسبات والتكنولوجيا توفر وظائف أكثر ربحا للشباب    الأمن القومي ركيزة الحوار الوطني في مواجهة التحديات الإقليمية    القاهرة الإخبارية: 4 شهداء في قصف للاحتلال على شقة سكنية شرق غزة    أمين الفتوى يوضح حكم التجسس على الزوج الخائن    قبول طلاب الثانوية الأزهرية في جامعة العريش    كيف استعدت سيدات الزمالك لمواجهة الأهلي في الدوري؟ (صور وفيديو)    محافظ المنوفية: تنظيم قافلة طبية مجانية بقرية كفر الحلواصى فى أشمون    مؤشرات انفراجة جديدة في أزمة الأدوية في السوق المحلي .. «هيئة الدواء» توضح    حدث في 8ساعات| الرئيس السيسى يلتقى طلاب الأكاديمية العسكرية.. وحقيقة إجراء تعديلات جديدة في هيكلة الثانوية    "طعنونا بالسنج وموتوا بنتي".. أسرة الطفلة "هنا" تكشف مقتلها في بولاق الدكرور (فيديو وصور)    رمضان عبدالمعز ينتقد شراء محمول جديد كل سنة: دى مش أخلاق أمة محمد    التحقيق مع خفير تحرش بطالبة جامعية في الشروق    "رفضت تبيع أرضها".. مدمن شابو يهشم رأس والدته المسنة بفأس في قنا -القصة الكاملة    تأسيس وتجديد 160 ملعبًا بمراكز الشباب    إنريكى يوجه رسالة قاسية إلى ديمبيلى قبل قمة أرسنال ضد باريس سان جيرمان    هازارد: صلاح أفضل مني.. وشعرنا بالدهشة في تشيلسي عندما لعبنا ضده    وكيل تعليم الفيوم تستقبل رئيس الإدارة المركزية للمعلمين بالوزارة    5 نصائح بسيطة للوقاية من الشخير    هل الإسراف يضيع النعم؟.. عضو بالأزهر العالمي للفتوى تجيب (فيديو)    20 مليار جنيه دعمًا لمصانع البناء.. وتوفير المازوت الإثنين.. الوزير: لجنة لدراسة توطين صناعة خلايا الطاقة الشمسية    المتحف المصرى الكبير أيقونة السياحة المصرية للعالم    تم إدراجهم بالثالثة.. أندية بالدرجة الرابعة تقاضي اتحاد الكرة لحسم موقفهم    «حماة الوطن»: إعادة الإقرارات الضريبية تعزز الثقة بين الضرائب والممولين    طرح 1760 وحدة سكنية للمصريين العاملين بالخارج في 7 مدن    تواصل فعاليات «بداية جديدة» بقصور ثقافة العريش في شمال سيناء    اللجنة الدولية للصليب الأحمر بلبنان: نعيش أوضاعا صعبة.. والعائلات النازحة تعاني    نائب محافظ الدقهلية يبحث إنشاء قاعدة بيانات موحدة للجمعيات الأهلية    فرنسا: مارين لوبان تؤكد عدم ارتكاب أي مخالفة مع بدء محاكمتها بتهمة الاختلاس    أفلام السينما تحقق 833 ألف جنيه أخر ليلة عرض فى السينمات    5 ملفات.. تفاصيل اجتماع نائب وزير الصحة مع نقابة "العلوم الصحية"    برغم القانون 12.. ياسر يوافق على بيع ليلى لصالح أكرم مقابل المال    إنفوجراف.. آراء أئمة المذاهب فى جزاء الساحر ما بين الكفر والقتل    مدير متحف كهف روميل: المتحف يضم مقتنيات تعود للحرب العالمية الثانية    «بيت الزكاة والصدقات» يبدأ صرف إعانة شهر أكتوبر للمستحقين غدًا    التحقيق مع المتهمين باختلاق واقعة العثور على أعمال سحر خاصة ب"مؤمن زكريا"    الأهلي يُعلن إصابة محمد هاني بجزع في الرباط الصليبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا تصدقوا الكتاب

‏(1)‏ تماما‏,‏ مثلما يحدث في الأحلام عادة‏.‏ أجدني عاجزا عن التعبير عما يخالجني‏..‏ عاجزا عن كتابة قصة قصيرة من ثلاث صفحات علي الأقل‏.‏ ربما أفكر في إحساس قارئ
افتراضي‏..‏ كيف يمكنني التعبير عن هذا الخواء الهائل الذي استوطن الأعماق فجأة؟ هل يمكنني كتابة نص‏,‏ وأنا في هذه الحالة النفسية المتردية كصباح خريفي مزمجر ؟ عزيزي القارئ‏,‏ أتشاركني بعض جنوني ؟
‏(2)‏
فكرة قديمة راودته منذ مدة‏,‏ وليس مهما إن بدت مهترئة كثوب بال‏..‏ ليس مهما الشكل الفني الآن‏,‏ وليذهب النقاد والحقاد إلي الجحيم‏!.‏
تخيلوا شخصا افتقد سكينة الدواخل‏,‏ مدججا بحزن غامض استبد بروحه في صباح ربيعي صحو‏,‏ وهو يحدق في أشجار الأوكاليبتوس عبر نافذة القطار‏.‏
غادر البيت مرفرفا‏..‏ الشارع خال‏,‏ عيناه تبحثان عن سيارة أجرة‏,‏ قروي عجوز متوكئ علي عصا‏,‏ يرعي بقرة عجفاء ويهش علي غنمه‏.‏
أشعة الشمس تلسع عينيه المحتقنتين‏..‏ لم ينم سوي أربع ساعات‏.‏ تمطر سماء عينيه وهو يلمح امرأة مع بقراتها وحقولا صفراء تنتظر سنابلها الحصاد‏..‏ المرأة منهمكة في غزل الصوف لا تبالي بعبور القطار وصريره المزعج‏..‏ يندلع بين جوانحه حنين جارح إلي طفولة بعيدة‏,‏ أشجار الأوكالبتوس تضاعف كآبته‏,‏ تتدفق الدموع‏,‏ يغطي وجهه بقبعته‏..‏ امرأة تربت علي صغيرتها‏,‏ بعد أن استلمتها من يدي أبيها‏,‏ وتذوب الصغيرة في خدر النعاس اللذيذ‏.‏
يحس فراغا وجدانيا موحشا‏..‏ يفكر بشكل أعمق في معني الفراق‏..‏ الوحدة‏..‏ الألم‏..‏ الخداع‏..‏
أقاربه الأصغر سنا كانوا يسخرون من نشيجه عند انتهاء العطل المدرسية‏.‏ كانوا يرون في القرية أشغالا شاقة لا تنتهي‏,‏ ومساكن بلون التراب‏,‏ حقولا تتلون مع فصول السنة‏,‏ وليال موحشة سرمدية تفرض سطوتها مبكرا‏.‏
في المدينة نساء كثيرات وحلوات‏,‏ وروائحهن تخدر كل الحواس‏.‏
صاح الخال مبتهجا‏.‏
‏(3)‏
توقف عن القراءة‏,‏ رفع رأسه الأصلع‏,‏ رمقه من وراء نظارتيه وهو يرمي بالورقة علي سطح مكتبه الفخم‏..‏
ما هذه الخزعبلات ؟
لا أعرف‏,‏ أظنها كتابة يصعب تجنيسها‏....‏
في صحيفتنا لا ننشر مثل هذه السخافات‏,‏ أرسلها إلي محرري تلك الجرائد التي لا تقرأ‏(‏ وبحزم استطرد‏)‏ انظر إلي هذه الصورة‏..‏
انحني‏,‏ والتقطها‏..‏
هذه صورة ذلك الحصان الذي قتل السائس‏.‏
أريد تحقيقا صحافيا شاملا عنه‏,‏ يكون جاهزا للنشر في العدد القادم‏.‏
‏(4)‏
يذوب وسط أمواج أناس غير عابئين ببعضهم‏..‏ يمشي منكس الرأس شارد اللب غارقا في أفكاره‏,‏ يفكر في شئ واحد فقط‏:‏ كيف يمكنني كتابة قصة تسرق إعجاب ناقدتي الأدبية رائعة الجمال‏,‏ المشرفة علي الملحق الثقافي بتلك الجريدة ؟‏...‏ بدل هذه الرسائل المتكررة التي لا ترد عليها ؟‏.‏
وأنت تغادر مبني العمارة‏,‏ تلمح امرأة شمطاء غزت وجهها ويديها التجاعيد‏.‏ كل مساء تلتقيها بجلبابها الوحيد الرث المتسخ‏,‏ علي كتفها تسترخي سلة قديمة تخفي ما يجود به المحسنون‏,‏ حيث ترابط كل يوم عند بوابة المسجد الكبير‏,‏ تحس شيئا يخز قلبك‏,‏ وتتساءل‏:‏
هل يمكن أن ينتهي بي المطاف مثلها ؟‏.‏
يعاتبك صديقك‏:‏
أنت حساس أكثر مما ينبغي‏..‏ كلنا نتألم لرؤية وجوه بشرية بائسة‏,‏ لكن لم تفكر في الأمر طويلا‏,‏ لست وزيرا ولا مسئولا ؟‏..‏
ولكن الانكسار في أعينهم وكلماتهم‏...‏ أخشي أن يكون كل هذا التعب لا يساوي حتي ثمن الأوراق‏,‏ صرت شبه مقتنع بلاجدوائية الكتابة‏...‏
ما هذه الخرافات ؟
تلوذ بالصمت‏,‏ وطيف الناقدة بمحياها الصبوح وشعرها الذهبي يغمر كيانك‏:‏ سأحاول أن أكتب هذا التحقيق بلغة أدبية منمقة‏,‏ حتي لو سبق ورفضت موادي من طرف تلك المجلة الأجنبية‏,‏ بسبب أسلوبي الأدبي‏..‏ لكن لم لا تنشر لي أستاذتي الحلوة ؟ ليس مهما إن خسرت مالا‏,‏ المهم أن أثبت لها أني جدير بأن تقرأ هلوساتي‏,‏ وليذهب كل النقاد الحقاد إلي الجحيم‏,‏ وفي مقدمتهم رئيس التحرير الذي لا يحب القصص ولا القصائد‏.‏
‏(5)‏
لفظتهما الحافلة‏,‏ يتأففان من سحابة النقع التي خلفتها عجلاتها‏.‏ المكان غارق في صمت سرمدي‏..‏ جل مبانيه قروية بائسة متناثرة كحفنة حصي بعثرها نزق طفولي‏,‏ تجاورها مقبرة مهجورة‏,‏ وفي أعلي التلة ضريح‏,‏ يفصله شارع إسفلتي عن متاجر ودكاكين ومساكن يطوقها صخب أليف يغري بالتسكع بين أزقتها الضيقة‏.‏
علي الرصيف‏,‏ يتحلقان حول طاولة امرأة تجلس تحت مظلة فقدت ألوانها الأولي‏,‏ يحدق في المرأة المتشحة بالسواد‏,‏ نعلها البلاستيكي‏,‏ جلبابها الأسود الملطخ ورائحة تزكم الأنوف تنبعث من سوائل النفايات فوق سطح عربة يجرها حمار عجوز مكدود‏,‏ وأمامها تتسابق كلاب‏.‏
يلعن في سره مدينته وسكانها‏,‏ وهو يتطلع في وجوه منشرحة مثل قلوب أهالي البلدة يستوقفون بعضهم‏,‏ ويتبادلون الكلام والابتسام‏.‏
‏(6)‏
استأنسنا جلسة بائعة‏(‏ الحريرة‏),‏ لكزني صديقي والمرأة تصب بعض الحريرة في إنائي‏:‏
حريرتك بردت‏...‏ ألم يعجبك طبخي ؟
أعتذر مرتبكا‏.‏
تشير المرأة إلي فتاتين تبرز سراويلهن الضيقة تفاصيلهن السفلي قائلة‏:‏
يمكنك أن تربط عليهما‏(‏ الكارو‏)‏ وتنقل التبن‏.‏
لا بل أكياس الذرة‏,‏ التبن أخف وزنا‏.‏
كم أتوق إلي ولادة بنت‏..‏ بنت واحدة‏.‏
ألازلت تلدين ؟
سألها الكهل في شبه سخرية‏..‏
ولم لا؟ أريد بنتا ترعاني في شيخوختي‏,‏ تصبن ثيابي‏,‏ وترتب فراشي‏.‏
أقبل متشرد في العشرين من عمره‏,‏ تنبعث منه رائحة كحول‏,‏ يلح علينا أن نعطيه مالا لشراء طعام‏,‏ تشير إليه المرأة أننا مازلنا طالبين‏,‏ وبحركة يده يدعوه الكهل أن يجلس جانبا‏.‏
نسمع شتائمها ودعواتها عليه‏,‏ ثم تناوله إناء الحريرة‏:‏
خذ يا ولدي‏!.‏
آه‏,‏ لو كان معنا حسن‏!!.‏
قالها صديقي متحسرا‏,‏ فأحسست أن شيئا ما ينقص رحلتنا‏.‏
‏(7)‏
ونحن في بلدته‏,‏ أحس برغبة جارفة في مجالسة صديقنا الخمسيني هنا‏,‏ وأن انهل من معين تجاربه في الحياة‏.‏
جلس طاويا ساقيه تحته‏,‏ وبخشوع ينهر الشباب وهو يحدثهم عن عذاب القبر‏,‏ نراقب حركات يديه‏,‏ كما لو كان يغطي شيئا بتراب وهمي‏,‏ نقرأ تعابير وجهه وهو يضم ساعديه أسفل بطنه‏:‏
حين يدفنونك‏,‏ يقف علي رأسك ويقول لك‏:‏ السلام عليكم‏.‏ ماذا كنت تفعل في دار الدنيا؟‏.‏
ينحرف مسري الكلام‏,‏ ونتحدث عن بلدة صديقنا‏,‏ وكمن يعترف بذنب أقر أحدهم بلقائه مع امرأة من أولئك النسوة‏..‏
متطاوسا هتف صديقنا الكهل‏:‏
أنا لم أعط في حياتي لأية امرأة مالا‏,‏ فقط ما يلزم من أكل وشرب‏..‏ أليس عرقا بعرق وجهدا بجهد ؟
واحدة قضت معي أربع سنوات‏...‏
اقترب صبي علي مشارف المراهقة فاغرا فاه‏,‏ مستندا بيديه إلي ركبتيه‏,‏ فرماه حسن بفردة حذاء‏:‏
سير تسرح نعاجكم‏.‏
آه‏,‏ لو كتبت هذه الاعترافات يا حسونة في نص وقرأته ناقدتي‏,‏ ستحقد علي إلي الأبد‏.‏
أكتم ضحكي‏,‏ وفي صدري أينع ربيع قبل أوانه‏...‏
أشار صديقي رفيق الرحلة بطرف عينه إلي جارتنا الثلاثينية وابنتها المراهقة وهما تغادران البيت‏,‏ فامتقع لون حسن وعلق في أسي‏:‏
في الصيف كانت عجيزة البنت أكبر من أمها‏.‏
في سري‏:‏ حتي هذه انتبهت لها يا ابن الذين‏...‏
كيف يمكن أن تتخيل أن تفكر فيك هذه المهرة ؟‏.‏
هذا الأحد‏,‏ لمحتهما في السوق الأسبوعي‏,‏ لكن الزحام لم يطاوعني‏,‏ لكي أحتك بجسدها‏...‏ وبيده جسد حركته المجهضة بزهو وهو يسحبها من الخلف‏,‏ من بين فخذيها حتي‏...‏ وسأله صديقي‏,‏ بطريقته التي تجعله يبوح بما يخالجه‏:‏
من ؟ الأم‏!..‏
هل جننت ؟ تلك عجوز شمطاء‏.‏
وضج المكان بالضحك‏.‏
‏(8)‏
نسمع صليل قيد حديدي‏,‏ فنلتفت جميعا‏..‏ يتهادي حصان يقوده شاب‏,‏ حركات قوائمه منسجمة كأنما يمشي علي إيقاع موسيقي خفية‏,‏ يخلب الأبصار بسواده اللامع وضخامته‏...‏ اختلج قلبي‏,‏ انتبهت إلي أن عينه اليسري مفقوءة‏..‏ بحركة سريعة أخرج صديقي آلة التصوير من حقيبته الصغري‏,‏ وشرع في التقاط الصور من زوايا متعددة‏,‏ وعيناي لا تفارقان حوافره المفلطحة‏..‏ وقف بعيدا عن الحصان‏,‏ وأشار إلي الفتي شاهرا بطاقته‏..‏
كان سيعدم رميا بالرصاص‏,‏ لولا تدخل الخبير النصراني‏.‏ يعرفون أنه حصان شرس‏,‏ لكن الكل يتباهي بأن الجياد التي من صلبه تحصد كل جوائز السباقات‏.‏
وسألت الكهل باهتمام‏:‏
ولم كانوا سيقتلونه ؟
عض السائس من قفاه حين انحني لتقييده‏,‏ ولم يتركه حتي لفظ أنفاسه الأخيرة‏.‏ جن جنون الحصان لأنه لم يشبع‏...‏
وغمز بعينه حتي ندرك المقصود بالكلمة الأخيرة‏,‏ وتراجع رأس الكهل إلي الوراء مقهقها‏,‏ وانتبهت إلي ملابسه الصوفية الثقيلة‏,‏ التي يرتديها في هذا الجو الحار‏.‏
أتسلي بتأمل الأشياء والموجودات والناس من حولي‏.‏ اقترب رجل علي مشارف العقد الرابع‏,‏ منظره يوحي بخبله‏,‏ في يده قصبة يضرب بها أعداء وهميين‏..‏ أحاول التركيز علي كلماته‏,‏ ونبراته الحادة المتوعدة‏...‏ صعد فوق حاوية الأزبال‏,‏ أشار بقصبته مادا ذراعه في الهواء‏;‏
أنت‏,‏ احرس تلك الجهة‏,‏ وأنت لا تغادر مكانك‏..‏ سنري من سيضحك في الآخر يا ولدي‏,‏ يا عامر‏.‏
قفز وأقبل ناحيتنا‏..‏ دعاه الكهل لاحتساء كأس شاي مداعبا‏:‏
ألم تعثروا عليه بعد ؟
ربما يكون قد مات‏.‏
تنهره المرأة‏:‏
دع الرجل في سلام‏.‏ قل‏:‏ الله يستر‏.‏
مد رجليه فوق الرصيف رافضا الجلوس فوق الكرسي‏.‏ أنشغل بالنظر إلي حركات قدميه الحافيتين‏,‏ ونظراته الشاردة تتقافز يمنة ويسرة‏.‏ اقترب صديقي متفقدا آلة التصوير‏,‏ تهلل وجه المخبول مبتسما في وجهه في حبور طفولي‏:‏
صورني مع حصان أبي عامر‏.‏
دنا مني الكهل وهمس في أذني‏:‏
هذا ابن المرحومة الزوجة الأولي‏,‏ وقد طرده عامر بعد أن تزوج واحدة من المدينة‏.‏
وكيف يتركه أبوه وإخوته علي هذا الحال ؟
إنه يهرب من البيت‏,‏ يحاولون حبسه في البيت‏,‏ لكنه يبدأ في الصراخ والسباب‏,‏ فيذعنون لرغبته‏..‏
التهم طعامه في شراهة‏,‏ أخذ ينظر إلينا في بلاهة‏,‏ وكأن الكلام عن شخص آخر‏..‏ ناولها الإناء وركض مثل طفل ممتلئ بالحياة والدهشة البكر وهو يصرخ‏:‏ يا عامر‏,‏ يا ابن الحرام‏..‏ إن كنت رجلا اخرج وقابلني‏.‏
‏(9)‏
أحاول مقاومة هذا الإحساس الجارف لكن عبثا‏..‏ أجدني مدفوعا إلي ملاحقة البنت‏,‏ عيناي لا تفارقان محياها‏,‏ وقلبي يخفق بشدة‏..‏ لو لم تكن ترتدي ثيابا بدوية لجزمت بأنها قاتلتي‏,‏ تلك الناقدة التي لا ترد علي رسائلي الإلكترونية‏,‏ وأقضي الليالي ساهرا في قراءة كتاباتها‏,‏ أنتبه فجأة إلي أني في عالم له تقاليده الخاصة‏,‏ تفاديا لما لا تحمد عقباه‏..‏ أدركت البنت‏,‏ أني أتعقب خطواتها‏,‏ فرمتني ببسمة فتكت بما تبقي من صمود داخلي‏,‏ وهوت بعصاها علي أتانها التي تئن تحت ثقل حمولتها‏:‏ أيمكن أن يكون لها شبيهة وامتداد في هذا الكون ؟‏.‏
حدق في الملامح المتدفقة عذوبة تخدش مرايا قلبه‏,‏ وهتف لنفسه بابتهاج‏:‏ وأخيرا‏,‏ وجدت القصة القصيرة التي كنت أتمني أن أكتبها منذ زمن‏....‏
أسرعت البنت في خطواتها‏,‏ أبطأ مشيه‏..‏ أدرك أنها اقتربت من ديارها‏..‏ ناجي الطيف الحبيب‏,‏ انعطفت الأتان‏,‏ ولمح ذيل ثوبها الملون قبل اختفائها‏,‏ توكأ علي الجدار الحجري‏,‏ أحس بالدوار وعيناه تصطدمان بقاع الهاوية‏...‏ خمن أن المكان كان مقلعا قديما للأحجار‏,‏ ابتعد متراجعا إلي الخلف‏,‏ وقد راودته فكرة أن ينهار الجدار بغتة وتلك الصخور الناتئة‏:‏ كيف يمكن لهؤلاء العيش وسط هذه النفايات المعدنية ومخلفات المصانع ؟‏,‏ في الأعلي لمح قطيع أغنام تقتات علي بقايا المزبلة‏.‏ انحدرت البنت وأتانها في الممر المواجه له في اتجاه القاع‏,‏ تفادي النظر إليها‏,‏ وانشغل بالتحديق في بعض المساكن الصفيحية المتآكلة‏.‏ داهمته رائحة كريهة‏,‏ غادر المكان مغالبا رغبته في القيء وعيناه تبصران جثث كلاب نافقة متفسخة‏.‏ أغمض عينيه وانحني مفرغا ما بجوفه‏...‏
وأحس كأن شيئا قويا لطمه‏,‏ فتهاوي من فوق الجدار القصير وانطلقت من أعماقه صرخة أخيرة متحشرجة‏,‏ قبل أن يرتطم بالقاع غارقا في دمه‏...‏
‏(10)‏
اختلط الحابل بالنابل‏,‏ ساد الهرج في البلدة‏,‏ تدافع الأهالي متفرقين مبتعدين عن طريق الحصان المندفع هائجا متوحشا‏.‏
في البيدر‏,‏ داعبه المخبول‏,‏ وفكر في أن يشفق عليه ويحرر قائمتيه من القيد الحديدي‏,‏ والجواد هادئ منهمك في العلف‏,‏ رفع الحصان ذيله ليهوي بها علي حشرة لسعته‏,‏ فلطم بقوة‏,‏ خد الرجل وهو يفك رباطه‏.‏ انتصب واقفا مزمجرا‏,‏ امتدت يده إلي سوط تحت عربة بالجوار‏,‏ وهوي بقوة علي ظهره‏,‏ فانطلق الحصان مثل السيل‏...‏
من بعيد‏,‏ لمحوه يمر بمحاذاة الطريق الزراعية المشرفة علي جرف المقلع القديم‏,‏ وبعد لحظات‏,‏ تناهي إليهم صياح نسوة يتعالي مستغيثات‏.‏
‏(11)‏
طال الانتظار‏,‏ ركب رقم صديقه وهمس لنفسه‏:‏ هذا المعتوه‏,‏ يبدو أنه اندس في أحد بيوت اللذة هنا‏!!.‏
اقترب صبي يرعي الغنم من الجسد المسجي‏,‏ شبه مخدر ناحية الرنين المتصاعد‏,‏ فتش الجيوب بسرعة وابتعد بغنيمته‏.‏ تفقد حافظة النقود‏,‏ دس الأوراق المالية في جيب قميصه ورمي ببقية محتوياتها بين النفايات‏.‏
وكأنما يخاطب أحدا وهو يبتعد عن بائعة الحريرة‏,‏ في اتجاه الحافلة القادمة‏:‏
سأحاول أن أجرب الاتصال به مرة أخري‏,‏ وإن لم يرد فسأعود من دونه قبل أن تتبخر المواصلات‏...‏ لا أعرف لم لا يرد هذا البائس‏!‏
تميز غيظا وصوت أنثوي رقيق يعلن‏:‏ الهاتف المتنقل الذي تطلبونه غير مشغل أو خارج التغطية‏.‏ الرجاء‏,‏ إعادة النداء لاحقا‏.‏
أطفأ هاتفه‏,‏ دسه في جيبه في حنق‏,‏ وأشار بيده إلي سائق سيارة أجرة تتأهب للانطلاق‏,‏ وهو يسرع في خطواته‏.‏
‏*‏ كاتب مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.