إن للصوم آداباً رفيعة، وأن له حكمة سامية وأن الصوم نظام حياة متكامل وليس موسماً عابراً. إنه دعوة إلي كل فضيلة، ورادع عن كل رذيلة وسياج دون كل معصية، فلا صخب في حياة الصائمين ولا شتيمة ولا شجار. صامت ألسنتهم فلا كذب ولا بهتان وصامت أبصارهم فلا تقع علي حرام وصامت أسماعهم عما سوي الحلال، استجابة لتوجيهات قائدهم الكريم عليه أزكي الصلوات وأتم التسليم (إنما الصيام من اللغو والرفث). وهكذا نري الصائمين نماذج ربانية، عافت لذيذ الشراب والطعام وأقبلت علي الصلاة والقيام وجادت ابتغاء مرضاة الله بالأقوات والأموال. تسامت أرواحها وعلت نفوسها وتعلقت منها القلوب بما عند الله من نعيم لا يزال لقد رأت هذه الدنيا علي حقيقتها، رأتها لقمة طعام فعافتها، وشربة باردة فتركتها، أو شهوة عابرة فتسامت عنها وخلعتها، ولسان الحال منها يردد (وعجلت إليك ربي لترضي). هذه غاية النفوس المؤمنة، وأمنية القلوب الصادقة، أن تفوز برضاء الله، ليس لها غاية سواه وهل هناك غاية أسمي وأغلي من رضاء الرحمن. لقد جاءت الشريعة الإسلامية لعلاج النفس البشرية وهدايتها إلي الطريق القويم، وتتعدد سبل هذا العلاج ويمثل العقاب الوسيلة الأخيرة لذلك، إذ يسبق العقاب وسيلتان أخريان هما: تهذيب النفس وتكوين رأي عام فاضل.ويكون تكوين هذا الرأي بعدم إظهار الشر، ووضوح الخير لذا فإن الجريمة المعلنة تعتبر جريمتين: جريمة الفعل، وجريمة الإعلان، إذ يقول النبي صلي الله عليه وسلم (أيها الناس من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فاستتر فهو في ستر الله ، ومن أبدا صفحته أقمنا عليه الحد). أما وضوح الخير فمن أبرز صوره : (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، حيث يقول الله تعالي: (ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (آل عمران : 104). أما تهذيب النفس البشرية فيكون بتربية الضمير، والعبادات جميعها تشترك في تربية الضمير ومن ثم تهذيب النفس، وإذا اقتصر الحديث علي الصوم فإننا نلاحظ أن له مكانة سامية وظاهرة في كبح جماح النفس البشرية. ولفظ (الصوم) يشترك مع لفظ (الصيام) في المصدر، فكلاهما مصدره (صام) ويستخدمان دون تفرقة بينهما ، والمعني الأولي للكلمة هو (يهدأ أو يستريح) أما المعني الشرعي للصوم فينصرف إلي: الإمساك عن المفطرات مع النية علي اليقين بالنسبة لليوم كله. ويدخر الإسلام للصوم قيمة عالية ، فهو عبادة تضم أسراراً عظيمة ، فالصوم في ذاته وفي آثاره يرتكز علي مجموعة أسرار ، فهو في حد ذاته ليس فيه عمل يشاهد ، وجزاؤه له خصوصية عظيمة، ألا وهي أن تقديره من الأسرار الإلهية إذ يقول فيه النبي صلي الله عليه وسلم عن ربه: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به). ويفرض الصوم ضمن ما يفرض علي المرء الامتناع عن الطعام والشراب، وهذا الامتناع في نفسه هو جهاد للنفس البشرية من أن تنجرف إلي تيار المعاصي والجرائم. إذ يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم (جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله وأنه ليس من عمل أحب إلي الله من جوع وعطش). تلجأ كثير من قطاعات العمل في وطننا الإسلامي إلي اختصار ساعات العمل في هذا الشهر العظيم، وذلك تخفيفاً علي الصائمين العاملين، فضلاً عن ابتداء العمل متأخراً فإنه ينتهي مبكراً وهذا وقوع في الكسل لا يعرفه الإسلام ولا الصوم. ففي الوقت الذي نحتاج فيه إلي مضاعفة العمل لزيادة الإنتاج، نأتي في رمضان لنحد من أوقات العمل حتي إن سويعات العمل التي يقضيها العامل في عمله لا يخرج الإنتاج علي أكمل وجه والحجة في ذلك (رمضان والصوم). إن رمضان وصومه بريء من كل هذه التهم. إن رمضان والصوم لا يعرفان الكسل بل هو شهر النشاط والاجتهاد ومراقبة الله في أداء الأعمال فلنتق الله فيما نفعل. وهناك شيء عجيب حقاً، ولا يليق في هذا الشهر الكريم ولا يعبر عنه في هذا الشهر أن نجد العبوس يرتسم دائماً علي وجوه البعض، وإن سألت قيل لك أما تدري أننا في رمضان ويكون أقرب إلي الغضب منه إلي الرضا. وإنني أتساءل هل الصوم يتطلب ذلك؟ هل الصوم مكروه إلي هذا الحد؟ هل هذا خلق الصائم حتي لا يفسد صومه؟ أم تلك عادة ورثناها ولا نعرف لها سبباً؟ هل الابتسام يتعارض مع الصوم؟ أخي الصائم: اعلم أن رمضان موسم الخير واكتساب الحسنات فيجب اغتنامه؟ ألا تعرف أن تبسمك في وجه أخيك صدقة؟ أما تدري أن الغضب يدل علي ضعف المؤمن، وأنه من الشيطان؟ إن المسلم الصائم في كل حركاته وسكناته. وظاهره وباطنه يعطي مفهوماً حضارياً لمن حوله فهو مسرور بحلول هذا الشهر المبارك بكظم غيظه عن الجهلة والسفهاء. وبعد هذه بعض المفاهيم الخاطئة التي ورثناها عن جهل منا، فعليك أن تأخذ حذرك من ذلك حتي يكون صومك مقبولاً.