ما معني الامتناع عن سلوك حسبت أنك لا تستطيع أن تمتنع عنه، لماذا نفعل ذلك أحيانا، فرادي بإرادتنا، أو دوريا جماعة معا؟ صاَمَ: أمسك عن الشيء، وصام: سَكَنَ، أن تمسك عما اعتدت أن تقوم به أو تتعاطاه، فأنت صائم، وأن تسكن بعد حركة فأنت صائم «تستعد للحركة المقبلة»، بهذا وذاك أنت كائن حي تمارس الإيقاع الحيوي الذي هو قانون فطرة الله التي فطر الناس عليها. تاريخ الحياة مليء بالتناوب بين الحركة والسكون، بين الممارسة والامتناع، وحين صار الإنسان إنسانا - بفضل الله- انتظم هذا الإيقاع بين نومٍ ويقظة، وبين نوم حالم ونوم بدون أحلام، وبين صوم وإفطار، كذلك انتظمت أغلب العبادات تواكب الشمس والقمر في دوراتها الحيوية «في الإسلام كنموذج»، يبدو أن كل هذه الروعة، وكل هذا التاريخ لم يصل إلي بعض الزملاء «والمشايخ» المتحمسين للدعاية للصوم، فعادوا مثل كل عام يسرفون في تعداد فوائد الصوم بمعلومات عن الطب والصحة ساذجة تستعمل في غير موضعها، حتي تمسخ روعة الصوم وتكاد تطمس حقيقته، وتفسد غايته. الذي يصلني من كل هذا، خاصة حين يفخر هؤلاء بأن الخواجة العلامة فلان الفلاني قد أقر واعترف أن الصوم «كويس» جداً للصحة، هذا الدين العظيم بالغ البساطة شديد العمق في آن، لا تحتاج إقامة شعائره إلي التذكرة بكل هذه المزايا السطحية المفتعلة. كثير من المتدينين غير البسطاء، ومن المؤلفة قلوبهم، ومن الذين يعبدون الله علي حرف، يمارسون مع كل رمضان أمراً آخر غير هذه الرشاوي باسم الصحة، وذلك بأن يلجأوا إلي تغيير نظام العمل والنوم والالتزام؛ بحيث يصبح الصوم مجرد تأجيل إطلاق طاقات الجشع والنهم، فهم يغيرون مواعيد الحضور والانصراف، والنوم واليقظة، وبذلك يتم محو كل ما يمكن أن يترتب «علي فضيلة الامتناع» فرادي وجماعات. ما هذا بالله عليكم؟ العبادة عبادة، فمن شاء فليؤدها، ومن شاء فليمتنع عنها سراً أو علانية، هو وشجاعته وتقاليد مجتمعه، وقلة ذوقه، الصوم بالذات هو لله - سبحانه -، وهو يجزي به!! ذكر شرَّاحُ هذا الحديث وجوهاً عديدة في معني قوله تعالي: «إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به»، مع أن الأعمال كلها له وهو أيضا الذي يجزي بها ، رجعت إلي ما تيسر لي من أقوال الشراح، ووجدت أغلبهم قد رأوا أن تخصيص الصوم هكذا هو لأنه الأبعد عن الرياء، فلا أحد يصوم حقيقةً وفعلا، إيمانا واحتسابا، ليعلن للناس أنه صائم، في حين أنه يستطيع أن يفطر بمجرد أن يغلق بابه دونهم، الصائم هو صائم في السر والعلن؛ لأن الله سبحانه معه في السر والعلانية، ولن يستطيع أن يخفي عليه أنه قد أفطر من خلف ظهر الناس، هنا يتجلي الحوار الصامت الملئ بحضور الحق تعالي قريب من عبده، أقرب من حبل الوريد، في العلاج الجمعي نتعلم ونعلم كيف نكف عن استعمال تعبير «لا أستطيع» أو «لا أقدر»، ونقول للمريض نحن هنا «لنجرب» ما لا نستطيع، وليس «لنكرر» ما نستطيع. في الحياة العادية يتكرر مثل ذلك مع المدخنين مثلا، حين يصرون أنهم «لا يستطيعون الكف عن التدخين»، وقد بلغ من رسوخ عدم الاستطاعة هذه مبلغا أن بعضهم يعجز عن صيام رمضان، ليس لجوعٍ أو عطش، ولكن لأنه لا يستطيع أن يمتنع عن ما اعتاد عليه، الأمر الذي ورط الرجل الطيب المبدع جمال البنا في فتوي جواز صيام المدخن وهو يدخن، فأوقعه إبداعه فيما كنت أتمني ألا يقع فيه. بداية الإبداع هو أن «تستطيع» ما تتصور أنك لا تستطيعه، أن تكف عن الاتباع لتعيد النظر فيمن تتبعه حتي الاغتراب، أن تتحرك عكس اتجاه عقربي الساعة لعلك تمتلك ناصية الزمن، فتخلق زمن الإبداع بما تشاء كيفما تشاء. يأتي رمضان فيسمح للمسلم العادي أن يجرب انه يستطيع ما يتصور أنه لا يستطيعه؛ فإذا به يستطيعه ببساطة وشجاعة وإقدام، يستطيعه سرا وعلانية، وحين تستطيع ما كنت تحسب أنك لا تستطيعه، تتاح لك الفرصة أن تبدأ رحلة الإبداع، هكذا يفتح رمضان لك بابا كان موصداً أمامك، أن تجرب إعادة النظر في كل ما فرض عليك حين لقنوك ما سمح لبعض قدراتك أن تمارسها دون بقية ما هو أنت هذا بعض كرم رمضان، وما لم تسارع بمحو آثاره بتغيير نظام يومك، وما لم تشوهه باختزاله إلي فوائد صحية خائبة، يأتي يعرض عليك أن تحاول، في شتي المجالات، ما حسبت أنك لا تستطيعه، بما في ذلك تغيير النظام «عالبركة». هيا قبل أن يعلم حكامنا هذا الاحتمال فيصدروا أمرا بإلغاء رمضان حفاظا علي الأمن العام، وضمانا للاستقرار.