كانت أبياته عن "دين الحب" الذي يتسع لكل العقائد - من الوثنية الي الاسلام محتضنا اليهودية والمسيحية معا علي وجه الخصوص - تتردد دائما في سمعي.. "هكذا كتب نصر حامد ابوزيد" : لقد صار قلبي قابلا كل صورة .. فمرعي لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف .. وألواح توراة ومصحف قرآن ادين بدين الحب اني توجهت .. ركائبه ، فالحب ديني وايماني وهكذا - ايضا - كان يري د.نصر العلاقة الايمانية بين العبد وربه .. كان يراها بمنظور "متصوف" استمده من كلمات محيي الدين بن عربي "560 ه" .. اذ كان مشروع الصوفي الاندلسي الاشهر " دين الحب" قد ملك عليه جوانحه .. لم ير ابلغ من ابياته السابقة - ابيات ابن عربي - بداية ليؤرخ من خلالها لآراء الرجل "المحب" .. فاخرج الينا اخر كتبه المطبوعة بمصر "هكذا تكلم ابن عربي". امسك المفكر الكبير ،الذي وافته المنية امس الاول، بعد حياة علمية وبحثية "صاخبة" بقلمه وخط في ذيل الابيات العبارة التالية : " ان الاصل الذي تستند اليه كل الاديان والمعتقدات ، هو اصل العلاقة بين "الحق" الخالق و"الخلق" المخلوق .. وهي علاقة "الحب"..ففي البدء كان الحب. لكن "دين الحب" الذي آمن به "نصر" ، الذي يجمع بين "الدير" و"الكعبة" و"بيت الاوثان" و"مرعي الغزلان"! - كامتداد لفلسفات استاذه الذي فصلت بينهما 8 قرون كاملة - كان من الناحية الواقعية محض "خيال" لا يجد من أو ما يدعمه ، اذ تحول الواقع بعد كل هذه القرون الي حالة من الجمود لم تكن تبشر علي الاطلاق باستيعاب اي من هذه المفاهيم !.. تحول الابداع الي ابتداع .. وتفوقت "النصية" الجافة التي اراد ان يفض بكارتها في كتابه "فلسفة التأويل" علي المدرسة "العقلية"!.. واصبحت اصداء "الحوار" وكأنها ساحات "خوار" ، تتنازعها تمتمات غير مفهومة ! اكتوي صاحب "دين الحب" بنيران من ارادوا ان يعاقبوه علي انه يفكر.. وربما لانه يتمني! طالته شظايا من ارادوا اغتياله معنويا ، قبل ان يصفوا حساباتهم معه جسديا - فقط لانه اقترب مما اعتبروه "تابو" لا يجوز المساس به - ولا نقصد هنا اطروحاته "الفكرية" التي سعوا لان تكون بوابتهم لاقصائه ، لكننا نقصد ما خاضه الرجل مع من احترفوا "النصب باسم الدين"..مع من امتلأت بطونهم وجيوبهم بنقود "توظيف الاموال"، فاعتبروها "سرا مقدسا" أو معلوما من الدين بالضرورة! كان من بين هؤلاء من وضعته الاقدار عقبة امام الرجل داخل اللجنة المشكلة لمنحه درجة "الاستاذية".. فها هو يأتي اليهم بقدميه.. فلم يأخروا ساعة أو يستقدمون.. اذ انقض عليه آنذاك احد مستشاري بيوت توظيف الاموال التي هاجمها نصر، وكان عضوا باللجنة، واتهمه بالكفر.. وربما كانت اقل اتهاماته حدة هي "الجهل" ! وضع نصر - الذي وصفه د.جابرعصفور شيخ" التنويريين" بأنه واحد من انجب ابناء جامعة القاهرة- امام اللجنة ما فاق قدرات بعضهم البحثية ..فقد كان من بين ما قدمه من ابحاث " الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية" ..وكتاب " مفهوم النص - دراسة في علوم القرآن"..وكتاب " نقد الخطاب الديني" الذي اسس خلاله نصر - وربما لاول مرة - لمفهوم الخطاب الديني ، كاصطلاح دال علي ما ينتجه الفهم "البشري" من دلالات حول النص الديني .. وهو ما يقتضي بالضرورة وجود انماط خطابية مختلفة تختلف باختلاف بيئاتها. ورغم شيوع هذا "الاصطلاح" فيما بعد ، الا ان خصومه باللجنة - ومنهم عبدالصبور شاهين - ابوا الا ان يعتبروا ما اسماه نصر "خطابا دينيا" الا قدحا في النصوص نفسها.. واهالوا علي ما قدمه اطنانا من الانتقادات والاتهامات مهدت بدورها لرفع دعوي تفريق بينه وبين زوجته "ابتهال يونس" ،لانه "مرتد"! .. وهو ما يعرف في فقه ابي حنيفة بمبدأ "الحسبة" ،اذ ان قانون الاحوال الشخصية يقر الاخذ بهذا المذهب فيما لم يرد به نص تشريعي! فهل كانت هذه هي الشريعة التي قال عنها نصر:" انها ميزان الوجود.. لها كالوجود ظاهر وباطن..وهي تشمل ظاهر الانسان كما تشمل باطنه.. وبالعمل بها ظاهرا وباطنا تنكشف الحجب وتتجلي الحقيقة؟!