ظل ملف العمل المشترك يطرح نفسه علي أجندة القادة العرب طوال العقود الماضية بأشكال وطرق مختلفة، فبينما سيطرت فكرة "الوحدة العربية" علي الأذهان في حقبة المد الثوري في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، تخللت الفترة التالية مقتربات تباينت بين السعي لإيجاد أطر تنظيمية جديدة لتطوير الأداء العربي المشترك، أو الاحتفاظ بجامعة الدول العربية مع العمل علي إعادة هيكلتها وتفعيل دورها، وإزاء الطرح الذي فرض نفسه خلال القمة العربية في مارس الماضي والمتصل بفكرة إنشاء "الاتحاد العربي"، والمشاورات التي تلت ذلك خاصة قمة سرت المصغرة الأسبوع الماضي، يعود الملف ليفرض نفسه بقوة علي الساحة، الأمر الذي يدفعنا إلي صياغة ملاحظتين رئيسيتين: تزامنت عملية طرح هذا الملف بقوة مع تولي ليبيا رئاسة القمة العربية، ومن المعروف أن قائد الثورة الليبية يعتبر الأب الروحي للاتحاد الأفريقي الذي خلف منظمة الوحدة الأفريقية في بدايات هذا القرن، الأمر الذي يشير إلي تمتع الملف باهتمام رئاسة القمة علي الأقل خلال الأشهر المقبلة، وهو ما يفسر كذلك قيام الدبلوماسية الليبية بإضافة بنود وأفكار جديدة في هذا الاتجاه. وقد يكون من المفيد التذكير بأن طموحات القيادة الليبية فيما يتصل بالعمل الجماعي الإفريقي تتجاوز في صيغتها الرئيسية مفهوم الاتحاد الذي تم طرحه كتصور يمكن القبول به من قبل القادة الأفارقة؛ حيث تعلق الأمر بالأساس بمشروع هدف ولا يزال لإقامة "الولاياتالمتحدة الإفريقية"، بما يتضمنه ذلك من طموحات تسعي لفرض القارة الإفريقية كقوة عظمي علي الساحة الدولية. وأخذاً بعين الاعتبار هذا التوجه المحوري في الاستراتيجية الليبية للتعامل الإقليمي، فإنه يمكن القول بأن الطرح الجديد يفتح الباب لجدل حول إمكانية تغيير أنماط العمل العربي المشترك سواء في شكل الاتحاد أو الوحدة. * إن عملية إحلال هيكل إطاري إقليمي بآخر لا تعني بالضرورة التغلب علي الصعوبات والمشاكل التي أعاقت من قدرة الهيكل القائم عن القيام بدور فعال ومؤثر، وبعبارة أخري فإن الاصطفاف وراء التوجه الداعي لتأسيس الاتحاد العربي لا يعني بشكل تلقائي أن الهيكل الجديد سيكون في وضعية أفضل من سلفه في التعاطي مع قضايا العمل العربي المشترك بمستوياتها المختلفة: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عربية كانت أم إقليمية أو دولية؛ حيث إن المتتبع لتطورات الأوضاع في المنطقة العربية يستطيع أن يلمس بوضوح المحددات التي تحكم طبيعة التحرك في هذا الاتجاه وفرص نجاحه، وتتمثل أهم هذه المحددات فيما يلي: وضعية العلاقات العربية-العربية ومدي سماحها بالانتقال إلي مرحلة متقدمة من مراحل التنسيق والتعاون، ففي الوقت الذي يثار فيه الحديث عن "إدارة" الخلافات وتنفيه الأجواء، قد يكون من الصعب الحديث عن إمكانية إحداث نقلة نوعية في مستويات التنسيق. الانقسام الواضح حول أساليب التعامل مع القضايا الرئيسية ذات الاهتمام المشترك، وفي مقدمتها المقترب الذي يتم تبنيه في التعامل مع إسرائيل وتعنتها في المفاوضات، والنظرة لطبيعة مستقبل العلاقات بين العرب وإيران، فضلا عن تباين المواقف من مقترح خلق منتدي دول جوار يشمل كلاً من إيران وتركيا. التفاوت الواضح في طبيعة علاقات الدول العربية مع القوي العظمي خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو ما دفع البعض إلي وضع تصنيفات تميز بين "دول الاعتدال" و"دول الممانعة" في إشارة واضحة إلي مدي درجة التماشي مع المواقف الأمريكية خاصة فيما يتصل بالصراع مع إسرائيل. وتزداد الأمور تعقيداَ في ضوء التصنيف الأمريكي ذاته للأطراف العربية بين الاعتدال والتشدد ودولها بين "صديقة" و"مارقة". مدي إمكانية تقبل القوي الكبري لفكرة وجود كيان أو تنظيم عربي متماسك ومتناغم يتحدث بصوت واحد ويمتلك العديد من مقومات القوة التي تؤهله- إذا ما تم التوصل إلي ذلك- للعب دور قوي ومؤثر في ضبط إيقاع العلاقات الدولية انطلاقاً من مبدأ المصالح بمستوياتها وأنواعها المختلفة.