في عام 1987 وأنا أخطو خطواتي الأولي في عالم الصحافة بجريدة الشعب، تعرفت علي الدكتور محجوب عمر الذي عاد من بيروت ونقل مركز الدراسات الفلسطينية إلي القاهرة، حيث عملت معه عدة سنوات. وتصادف أن أبدأ الصحافة في العام التالي لثورة شعبية أطاحت بالرئيس السوداني جعفر نميري، وترافق ذلك مع فضيحة مدوية لصقت به، وهي عملية تهريب اليهود الإثيوبيين المعروفين بالفلاشا عبر السودان، وازدحم في مكتب الدكتور محجوب عمر عشرات الدراسات والمقالات والكتب بكل لغات العالم عن ما سمي بفضيحة العصر، وأصبح لدينا عدة ملفات ضخمة تضم آلاف الأوراق عن الفلاشا. كان النميري قد أطيح به في ثورة شعبية وهو خارج السودان، فعاد إلي القاهرة وعاش بها كلاجئ سياسي، وكان معتادا رؤيته وهو يرتدي الزي التقليدي السوداني، ويتجول في ميدان العتبة، كما زرته أكثر من مرة في مكتبه بميدان الظاهر وأجريت معه عدة حوارات لكنه كان يستشيط غضبا كلما فتحت معه موضوع الفلاشا. ومنذ الكشف عن الوثائق السرية لتهجير الفلاشا ظهرت مئات المقالات ونشرت كتب بالعربية والعبرية ولغات أخري جميع التفاصيل المتعلقة بالعملية ومن المعروف أن إسرائيل شكلت شبكة جاسوسية بإشراف الموساد والمخابرات المركزية الأمريكية، وقد نجحت في تهريب 1400 من يهود الفلاشا في إطار عملية أطلق عليها اسم "عملية موسي" علي متن طائرات تجارية قبل ان يكشف أمرها. وأدركت إسرائيل والولايات المتحدةالأمريكية ضرورة أن تكون السودان محطة تجمع وانطلاق للفلاشا وبعلم السلطات السودانية، وهكذا عقد اجتماع حضره جعفر النميري وأرييل شارون وتاجر السلاح السعودي عدنان خاشقجي في نيروبي حيث تم الاتفاق علي "عملية سبأ" التي نصت علي مشاركة المخابرات المركزية الأمريكية في العملية لضمان السرية، وألا تظهر إسرائيل بأي صورة في أي مرحلة من مراحل العملية وعدم اتجاه الطائرات من الخرطوم إلي إسرائيل مباشرة، وان تكون أماكن تجمع الفلاشا في الأماكن المخصصة للحجاج في مطار الخرطوم، مع إيداع 56 مليون دولار في حساب باسم جعفر النميري في روما. وتم دفع مبالغ إضافية إلي مساعدي النميري المشتركين في العملية اللواء عمر الطيب نائب رئيس الجمهورية والدكتور بهاء إدريس مساعد النميري لشئون القصر الجمهوري والعقيد الفاتح محمد بن أحمد والعقيد موسي إسماعيل والعقيد هاشم أبو رنان مدير مكتب اللواء الطيب الذي تقدم خلال المحاكمة بشهادة تفصيلية عن العملية ولذلك اعتبر شاهدا. ونجحت إسرائيل في تهريب عشرين ألف يهودي خلال هذه العملية قي عام 1985 ولعبت الصدفة دورها في الكشف عنها حينما شك أحد حراس المطار بوجود لصوص في احد المستودعات بعد سماع أصوات وحركات غريبة تنبعث من هذا المستودع وأخبر قائد أمن المطار الذي توجه علي رأس قوة إلي المستودع وكسروا الباب، وألقي القبض علي الفلاشا في كل المستودعات. لا يوجد في قصة الفلاشا أي جديد، وقد أجرت فيها السلطات السودانية تحقيقات مكثفة، نشرت علي الناس، كما أعلنت إسرائيل تفاصيل العملية الكاملة قبل سنوات.. ومن هنا يبدو غريبا أن تدعي صحيفة انها تنشر هذه القصة لأول مرة بينما كتابة كلمة فلاشا علي أي محرك بحثي علي الانترنت ستؤدي إلي تدفق كل المعلومات والتحقيقات التي سبق نشرها ولم تعد سرية.