إنني هالك لا محالة لو بقيتُ هكذا بيأس ودون رغبة لفترات طويلة محجوزاً بدافع النجاة داخل أماكن مُغلقة. إنني شاهد عيان علي تعرُّض ذاكرتي لضمور كبير. لاحظتُ هذا الضمور في الخروج النادر للحياة العامة. هناك بعض الأماكن التي أتردد عليها بشكل غير دوري، عندما أشعر بخطورة الحجز. بعض الوجوه أعرفها، لكنني لا أري فعلياً وجه مَنْ أحدثه، أو بمعني آخر يفقد الوجه أمامي إشارات عمره، وفي الغالب يكون تقديري للوجه غير مناسب لعمره، هذا إذا تعرُّفتُ عليه من الأساس. التقديرات تكون من ناحيتي في اتجاه واحد، وهو تقليل عمر الوجه، تماماً كما يحدث لي عند النظر في المرآة، وليس تقليل عمر الوجه له علاقة بخفة مرور الزمن، أو أن نزعة التفاؤل لدي تقول: ما زال هناك الكثير، بل الدهشة الكاملة من أن هذا الوجه قطع زمناً ثقيلاً وما زال هناك. في العادة تكون ردود أفعالي مُبَالَغَاً فيها، ففي مكان مفتوح لا يفكِّر أحد في رد الفعل المُتوقَّع منه عندما يلقي آخر عليه سلاماً بينما أكون أنا بحمولة ثلاثة أشهر من الحجز الوحشي عندما أرد سلاماً فكَّرتُ في احتمالاته مراراً وتكراراً. كيف أضع أمام مَنْ يلقي السلام علي حمولة الشهور الثلاثة المُضنية، هذا إذا كان مُهتماً لمعرفة سبب الكلمة النابية التي واجهتُ بها سلامه، وأيضاً إذا كانت له القدرة علي فهم شروحاتي المُطوَّلة التي قد تبدأ بقرد كافكا الأكاديمي عندما لم يكن تخلَّص بعد من طباع القرود لديه، فكان دون سبب واضح ينزع أمام مَنْ يحدِّثه بنطلونه ليظهر له مكان الرصاصة التي اخترقت فخذه في زمن أسره، وقد لا تنتهي بأن قرد كافكا كان له الحرية في إخفاء موضع إصابته حتي لو طلب منه علي سبيل المثال واحد من منظمة حقوق الحدود الخيالية بين الإنسان والحيوان، رؤية الإصابة لإثبات حالة التعذيب التي تعرَّض لها بيتر الأحمر، وهو الاسم الذي أعطاه كافكا لقرده الشهير في قصة تقرير إلي الأكاديمية. عبرتُ مع بيتر الأحمر الحدود الخيالية بين الإنسان والحيوان، عبرنا مجازاً فوقه قنطرة بعرض الجنَّة، وعندما التقينا بعد سنوات أمام نفس المجاز الذي جئنا منه كان قد ضاق بصورة لا تسمح لنا بالعودة ثانية. أخذ بيتر الأحمر في الدوران حول نفسه، ودفع نفسه بعنف في كوة المجاز دون فائدة بينما كانت ذراعي اليمني، التي طالتْ رداً علي الأسر الماضي لصديقي بيتر الأحمر، لها طول عرض قنطرة المجاز. أدخلتُ ذراعي في كوة المجاز، واستندتُ بذقني علي حاجز القنطرة، وقفز بيتر الأحمر علي عرض قنطرة المجاز يقرأ في تعبير وجهي رحلة ذراعي، وهي تقطع طول عرض قنطرة المجاز. رأيتُ فيما يري النائم أنني بين أشجار عملاقة. كانت الأشجار تطعن السماء طعنات نجلاء. كانت تصنع في الأعلي مظلة تنفذ منها مخروطات ضوء مائلة مليئة بالغبار. كانت بجذوع سميكة. كنتُ فيما يبدو في قلب موقع تصوير فيلم فيرتيجو لألفريد هيتشكوك. أحد المساعدين يراجع مع كيم نوفاك حوار المشهد. أمام مقطع عرضي لجذع شجرة ميتة يدور الحوار حول عمر الشجرة المُتجاوز ألف عام. حفريات شجرة. طبقات في بطن الشجرة عليها إشارات لأحداث كبيرة، ومع هذا هناك فرصة لأن يجد إنسان نكرة مكاناً له في بطن الشجرة. تشير كيم نوفاك قرب محيط الشجرة، وهي وتقول لجيمس ستيوارت: هنا وُلدت. لم أجد لي مكانا في جذع الشجرة، لم أكن قد وُلدت بعد، ليس اضطهاداً من الشجرة، علي الأقل وجدتُ مكاناً لأبي وعائلتي. بعد المشهد، ولتقدير محيط شجرة عملاقة اقترب عمرها من ألفي سنة، احتضنتُ أنا وهيتشكوك وكيم نوفاك وجيمس ستيوارت ومدير التصوير واثنان من المساعدين، جذعها الهائل، والتصقتْ الصدور والخدود بلحائها القاسي، واشتبكتْ أصابع الأيادي المفرودة في احتواء طفولي لمحيط زمن لا نقدر عليه. كانت أصابع يدي اليمني تشتبك مع أصابع يد كيم نوفاك اليسري. وكانت أصابع يدي اليسري تشتبك مع أصابع يد ألفريد هيتشكوك اليمني. عوينا جميعاً عواء ذئب واحد.