أجلس الآن في حديقة منزلي في إحدي ضواحي لندن الكبري.. الجو ربيعي أوروبي والشمس دافئة ساطعة والهواء منعش عليل... الأشجار والورود من جميع الأشكال وألوان الطيف ورائحة الفل والياسمين تملأ المكان.. وها هي ابنتي الأصغر سونيا تترك جامعتها في سوسهمتن لتحضر لوالدها شاي بعد الظهر علي الطريقة الانجليزية التي يحبها والدها.. ولكن والدها في مكان آخر.. يحلم بالقاهرة.. عرقها.. ترابها.. وزحمة مرورها الذي لا يرحم أحداً وزيراً كان أو خفيراً طبعا القاهرة هي أكثر من ذلك فإذا جاء الليل خرجنا إلي نادي الجزيرة أو كورنيش النيل وكوبري قصر النيل.. أما مكاني المفضل فهو مقهي يطل علي النيل في فندق من أجمل وأرقي فنادق العالم إضافة إلي هذا المصري وأحيانا مصرية عبقرية في اللعب علي البيانو.. تجود علينا بأجمل الألحان الأوروبية والشرقية مثل أغاني عبدالحليم حافظ.. مثلا أهواك واتمني أن انساك وأنسي روحي وياك وإن راحت تبقي فداك.. فدي مصر. مصر ليست فقط بلداً بل كما يقول صديقي الحبيب جمال الغيطاني مصر حالة نفسية فلسفية مزدوجة.. التاريخ في مصر حتي ولو كان عمره 2000 سنة هو حقيقة حية حقيقة أكثر من الحقائق الملموسة.. عندما أكون في هذا المقهي الرائع الذي أذهب له بعد العاشرة مساء وأظل أحياناً كثيرة إلي الثالثة أو الرابعة صباحاً أنسي كل منغصات الحياة اليومية في مدينة يسكنها أربعة أضعاف العدد الذي صممت من أجله وربما أكثر. قابلت هناك كثيراً من عظماء مصر في الفن والعلم والأدب. كذلك كثير من السياسيين ورجال الأعمال يترددون علي هذا المقهي فريد النوع من حسن الإدارة ولطف المعاملة. إنها مصر كما يجب أن تكون في كل مكان من قهوة بلدي إلي فندق سبع نجوم.. مصر كان يأتي لها أباطرة الرومان لكي يتعلموا الرقي والحضارة.. مصر الذي كان يليوس سيزا يفكر أن يجعلها منتصف الامبراطورية الرومانية والإسكندرية عاصمتها. الإسكندرية التي لم يكن فيها أكبر مكتبة في التاريخ فقط بل التي كتب فيها وليس في اثينا العالم الأسطوري أقليدس موسوعته عن الهندسة.. إلهي كم أحب هذا البلد بكل متناقضاته وكل متاعبه وكل جماله الخلاب. في ليلة من هذه الليالي تقابلت مع شخصية لافتة للنظر بكل معني لهذه الكلمة وهو الدكتور مأمون فندي كان لي حديث مع هذا الرجل الذي هو أستاذ للعلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن في الولاياتالمتحدة واكتشفت أنه يعرف عن الطبيعة النظرية وأعمالي وأعمال د. أحمد زويل أكثر من كثير من علماء الطبيعة مأمون صعيدي مائة في المائة ومصري مائة في المائة وليس غريباً لذلك أن يكون أفقه أوسع من علماء أمريكان مائة في المائة صحيح ليالي الأنس علي الأقل لي أنا الفلاح المصري هي في القاهرة مهما طالت الغربة ومر الزمان.