إذا كنت من الذين يمرون صباح كل يوم علي ميدان العباسية في طريقك لعملك مثلي، غالبا ستتوقف في الإشارة وأنت داخل سيارتك أو سيارة العمل أو التاكسي.. وعندئذ ستراه بصعوبة لصغر سنه وحجمه.. فهو طفل قصير القامة هزيل الجسد، أسمر البشرة ليس بسبب لون مصريته، ولكن لأن الشمس تحرقه يوميا وهو يسير بين السيارات يحمل صحفا تارة ومناديل ورقية تارة أخري.. هو هو نفس الطفل.. ملابسه رثة، ووجهه أسود، وعيناه تهرب من الناس.. حتي قائدي السيارات الذين يشترون منه شيئا ويمدون أياديهم عبر نوافذ سياراتهم بالمال للطفل، لا يرون عينيه ولا يميزان لهما لونا! هو لا يهتم بالناس ولا حتي بنفسه ولا يعرف شيئا عن الحياة إلا أنه ينبغي أن يواصل الإلحاح علي هذا وذاك ليبيع بضاعته ويجني المال.. وكل ما سبق لا يهمنا بقدر ما يهمنا تعرض هذا الطفل للموت المحقق، بل والهرس تحت عجلات السيارات في كل لحظة، في كل يوم، طوال ساعات يقفها في الإشارة!! هو لا يظهر لقائدي السيارات وهم جالسون في مقاعدهم لقصر قامته.. وفي لحظة السير عندما تفتح الإشارة، تنطلق السيارات بسرعة كبيرة، فهذا قد تأخر عن ميعاد العمل، وذاك متبرم من طول انتظار الإشارة.. وفي محاولات تحاشي التصادم، أو الميكروباص الذي (يكسر) عليك من هنا، والأوتوبيس الكبير الذي ينطلق بجانبك، يكون من الصعب، بل المستحيل أن تتمكن من رؤية طفل الإشارة الصغير.. ماذا لو صدمته إحدي السيارات المسرعة؟ هل سيهتم أحد؟ هل سينقذه أحد؟ وماذا إذا كان الذي صدمه يمتلك ضميرا حيا؟ هل سيعذبه ضميره لأنه صدم الطفل؟ أم سيلتمس لنفسه العذر وقد يكون محقا في ذلك لأنه من الصعب جدا رؤية الطفل من ناحية، ولأن تواجد الطفل بين السيارات هو خطأ مقصود والمسئول عنه هو ولي أمر هذا الطفل من ناحية أخري؟ وأين ولي أمر الطفل؟ وهل سيظهر له أب إذا صدم ومات في الإشارة؟ نعم قد يظهر له أب يطالب من صدمه بتعويض لأنه تسبب في موت ابنه العزيز الغالي الذي يتركه هذا الأب المكلوم يسير في الشوارع طوال اليوم ليتعرض للموت!! وماذا لو لم تصدمه سيارة؟ ألن تقتله عوادم السيارات المكثفة التي يستنشقها كل يوم؟ أم قد يقتله من أرسله لجني الأموال لصالحه ولم يتمكن أن يحصل عليها.. وقد يقتل في مشاجرات ومعارك عصابات الشوارع بمن فيها من صغار وكبار.. وربما تكون هناك طرق أخري أسوأ مما سبق لاستغلال الطفل وأذيته بدنيا ونفسيا بما هو أكثر سوءا من قتله.. فما الحل في هؤلاء؟ أين قوانين حماية هؤلاء الأطفال؟ وكيف ومتي يتم تفعيل هذه القوانين؟ إذا كان طفل إشارة العباسية الذي يراه آلاف الناس كل يوم يقف في وضح النهار أمام كل المسئولين متحديا قوانين حماية الطفل ومعرضا نفسه لكل تلك المخاطر، فماذا عن أطفال الشوارع الآخرين المنتشرين في كل مناطق القاهرة ومدن مصر؟ ما زلنا في انتظار البداية الحقيقية لحماية الأطفال في مصر..