فجرت جريمة «كترمايا» العديد من التساؤلات ولم يعد الصمت عليها ممكناً سواء من حيث مساحة الدم والعنف المجنون سواء ما اتهم بارتكابه المتهم المصري محمد سليم مسلم بحق طفلين وعجوزين لا ذنب لهم، أو ما تم من قبل أهل القرية مع المتهم من بشاعة وتمثيل بالجثة وتعليقها وسط صيحات وحشية من الجميع. إلا أن الجريمة الحقيقية ارتكبها العديد من وسائل الإعلام في البلدين تلك الظاهرة التي يجب التوقف أمامها مطولاً خاصة وسائل الإعلام الحديثة من مواقع الكترونية أو فضائية وبعض الصحف الخاصة. ومن ثم ارتبطت مساحة الحرية الإعلامية بمساحة الدم فيما يمكن أن نسميه «عنف الإعلام أو الإعلام الدموي» لم يعد يهتم المسئولون عن هذه الوسائل الإعلامية سوي بالربح السريع بجميع أنواعه اللإنسانية في فضاء مفتوح بلا رقابة ولا قانون ولا قواعد أخلاقية أو مهنية حتي فاقت وحشية الإعلام وحشية المتهم بقتل الأطفال والعجائز أو العنف الوحشي لأهالي القرية.. لأن جرائم كترمايا تنحصر في بضعة مئات من البشر حولها الإعلام إلي ملايين المشاهدين بشكل هيستيري ومرضي!! ومما زاد «الطينة بلة» أن الانفلات الإعلامي وصل إلي حد تحويل المجرمين إلي أبطال قوميين ووطنيين!! ووقع هذا الإعلام الفاشل في مستنقع الشوفينية في تعميم واساءة بالغة للشعوب حيث ظهرت التحليلات الخائبة سواء باتهام الشعب اللبناني بكراهية مصر أو العكس الأمر الذي يعيدنا لخطايا الإعلام الرياضي الجزائري والمصري بعد مباراة أم درمان في كرة القدم. وتبارت معظم هذه الوسائل الإعلامية خاصة الإلكترونية والفضائية في أن تحل محل ساحات المحاكم وأصدرت الأحكام المسبقة المتبادلة ما بين الإلكترونيين والفضائيين المصريين وأشقائهم اللبنانيين.. والمضحك المبكي أن معظم هذه الوسائل الإعلامية قد حولت القضية إلي سلاح في يد المعارضة اللبنانية التي تريد أن تستفيد من تلك التجربة في اضعاف الحكومة اللبنانية أو العكس حيث حاولت بعض تلك الوسائل في مصر أن تحول قضية كترمايا إلي سهم في صدر وزارة الخارجية المصرية، واتهامها بالتقصير وخلط الأوراق. كما حاول البعض الآخر تحويل القضية إلي قضية طائفية ما بين شيعة وسنة في جهل مطبق لفهم طبيعة سكان كترمايا وسكان اقليمالخروب أو الجبل.. ووصل خيال بعض المرضي إلي ربط ما حدث بكترمايا بما صدر من أحكام في قضية خلية حزب الله! كما جري بشكل مبالغ فيه تديين القضية فأجاز مشايخ لبنان القصاص لأهل القرية من الشاب المصري، وطالب مشايخ مصريون بضرورة «القصاص» ممن ارتكبوا جريمة التمثيل بجثة الشاب المصري، في لبنان!! وأمام كل هذه الانحرافات المرضية الإعلامية لابد من التوقف أمام بعض الظواهر: أولاً: هل عنف الإعلام الدموي ودخول مئات الآلاف من مستخدمي الانترنت علي تلك المواقع.. وبث الفضائيات لمشاهد التنكيل والتمثيل بالجثة للمشاهدين سوف يقودنا إلي طبيعة شخصية القائم بالاتصال في تلك الوسائل الحديثة وكذلك عما أصاب المتلقين من المشاهدين من تلذذ وتبادل الأدوار وتوحد المرسل والمستقبل مع المجرم في سادية تحتاج للدراسة. ثانياً: لابد أن نعترف أن وسائل الإعلام العربية خاصة الإلكترونية والفضائيات لم تكن بالنسبة لحادثة كترمايا هي الأولي ولا الأخيرة. فكثيراً ما شاهدنا شخصاً ملثماً يظهر وهو يقطع رأس مواطن غربي خاصة في العراق ويظهر خلف القاتل أعلام عليها عبارات المقاومة وشعارات تحمل لفظ الجلالة «الله أكبر» وكيف تقوم وسائل الإعلام العربي مثل الجزيرة بتحويل هؤلاء القتلة إلي أبطال قوميين وكلنا شاهدنا كيف القت مليشيات حماس قوات الأمن التابعة لفتح من أعلي البنايات ثم سجد القتلة لله شكراً. هكذا تم تحويل العنف الدموي وقتل المدنيين بما في ذلك الأطفال والنساء والعجائز إلي عمل بطولي وطني ويجب ألا ننسي أن هناك حوالي المليون مواطن في العراق قد تم قتلهم بعبوات ناسفة في الأسواق وفي دور العبادة تحت شعارات المقاومة الدينية. ثالثاً: لقد ركزت أكثر الأدبيات المتعلقة بالعنف علي قضية العنف السياسي أو الديني دون إلقاء الضوء وتعميق الفهم للعنف المجتمعي، كظاهرة تحمل في باطنها انفجاراً في المجتمعات العربية، وصحيح أن العنف المجتمعي ظاهرة عالمية لكن يبدو أن هناك وضعاً خاصاً للعنف المجتمعي في مجتمعاتنا العربية، حيث تمجد ثقافتنا العنف وتصبغ البطولة علي أصحابه، وتقرنهم بشعارات دينية وتربطه بمعان وطنية، كما أن الانفلات الإعلامي العربي يزيد من مساحة ثقافة الكراهية التي يجسدها إعلان العنف الدموي لذلك هل يمكن أن نقف معاً من أجل فهم أعمق لهذه الظاهرة ابتداء من التأصيل الفكري للعنف الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي، النفسي العرقي، النوعي، الديني، كذلك العنف العرقي وما قد يكون قد لحق لعمليات التعبير الاجتماعي عن العنف وتجلياته من تشوه. تلك القضية التي يجب أن يتبناها المفكرون والباحثون في مراكز البحث الاجتماعي في مجتمعاتنا العربية.