بغض النظر عن الجدل الدائر علي الساحة السياسية السودانية حول الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة ومدي شفافيتها واستجابتها للمعايير الدولية الضامنة لنزاهة الانتخابات، فإن الزيارة التي قام بها الرئيس السوداني عمر البشير إلي مصر أمس بعد عدة ساعات من إعلان فوزه بعهدة رئاسية جديدة تحمل رسائل عديدة ينبغي الالتفات إليها والاهتمام بها. وبغض النظر عن العلاقات الشخصية التي تجمع الرئيسين مبارك والبشير، لأنها طبيعية في ضوء أن الرئيس له علاقات مميزة مع معظم زعماء العالم، بدت واضحة للجميع في الاتصالات الهاتفية التي تلقاها خلال فترة الجراحة في ألمانيا أو فترة النقاهة في شرم الشيخ، أو في الزيارات رفيعة المستوي، للاطمئنان الشخصي والتهنئة بالشفاء. زيارة البشير لايمكن وضعها في هذا الإطار وكفي، بل يجب النظر إليها في إطار رؤية أوسع من ذلك تأخذ في اعتبارها العلاقات بين مصر والسودان، صحيح أنهما دولتان مستقلتان، لكن ما بينهما من علاقات أزلية تجتاز حدود العلاقات الرسمية بين الدول لتخلق نسيجا متينا من العلاقات الشعبية التي تقفز دائما فوق الرسميات والبروتوكول وغيرها من قواعد الدبلوماسية. وحين تأزمت مفاوضات دول حوض النيل قبل أيام، وقررت دول المنبع السبع توقيع اتفاق إطاري بعيدا عن مصر والسودان سارع الرئيسان بتوجيه رسائل إلي زعماء تلك الدول تدعو إلي استمرار الحوار والتفاوض وعدم اللجوء للحلول المنفردة، أو محاولة استبعاد أي طرف في قضية تهم دول حوض النيل كافة. جاء البشير بعد فوزه بساعات ليطمئن علي شقيقه مبارك، لكن الرئيسين تجاوزا سريعا التهاني المتبادلة، ودخلا فورا إلي صلب التحديات والمخاطر التي تواجه السودان، فاتفاقيات السلام المتعددة في دارفور لا تزال متعثرة، وجنوب السودان علي موعد بعد أقل من ثمانية أشهر لتحديد مصيره إما البقاء ضمن الدولة السودانية أو الانفصال، ومنتصف الشهر القادم ستجتمع دول حوض النيل السبع للتوقيع علي اتفاق منفرد بعيدا عن مصر والسودان. ويخطئ من يتصور أن أيا من القضايا الثلاث لا يشكل أهمية قصوي لمصر (جنوب السودان درافور مياه النيل) بل إن القضايا الثلاث هي في صلب الأمن القومي المصري، إن لم تكن الأهم علي الإطلاق حاليا وفي المستقبل، وكما تشكل خطورة علي السودان، تكاد تكون نفس درجة خطورتها علي مصر، لذلك ليس غريبا أن يزور البشير مصر بعد إعلان فوزه بساعات، لأن القضايا واحدة.. والهم واحد. وهذا يعني أن علي جميع المصريين تركيز أبصارهم وانتباههم، وجهودهم لما يحدث في جنوبالوادي.. فكل مسمار يدق في بدن الدولة السودانية، نشعر به جميعا في مصر، والعكس صحيح أيضا.. ومن أوجاع الجسد تتحدد الأولويات للأفراد والدول.. والسودان هو أهم أولوياتنا ومدخلنا إلي دول حوض النيل وإلي القارة الأفريقية بأكملها.