تحولت الانتخابات السودانية من فرصة لتحقيق نقلة سياسية تقود البلاد إلي مستقبل أفضل يضمن استقراره إلي كابوس قد يتحول إلي عاصفة تنهي وحدة هذا البلد، وبات علي جميع الاطراف السودانية وبصفة خاصة الاحزاب الشمالية البحث عن سيناريو توافقي يضمن العبور بالسودان إلي بر الأمان يتخطي به أزماته ذلك أن الاستحقاق الانتخابي يأتي في توقيت حرج لا يسعف مساعي المريدين للوحدة إلا بمعجزة فهو يأتي قبل ثمانية شهور من استفتاء انفصال جنوب السودان عن شماله وفقا لاتفاقية السلام الموقعة بين الطرفين في نيفاشا 2005 . زادت تعقيدات الانتخابات وتحدياتها غير المسبوقة نتيجة لسلسلة من الضربات والمفاجآت المتتالية بما جعلها من أخطر التجارب الانتخابية التي يشهدها تاريخ السودان الحافل بالإنقلابات العسكرية وأيضا بالتجارب الديمقراطية والتي قد تنتهي به إلي التقسيم، والاكثر من ذلك هو التلويح بإمكانية استخدام العنف من احزاب الشمال تحديدا مثل الامة والمؤتمر الشعبي برئاسة حسن الترابي وهو ما يهدد بالعودة إلي المربع صفر وإشاعة الفوضي في اكبر بلد عربي وافريقي. وبعيدا عن الظروف المحيطة بتلك المعركة فإن طبيعة إجراء الانتخابات نفسها تعد أمرا في غاية الصعوبة إذ من المقرر أن تجري انتخابات علي ستة مستويات في وقت واحد ثلاثة علي المستوي التنفيذي وهي رئاسة الجمهورية ورئاسة حكومة الجنوب ثم 26 والي للولايات المحلية، وثلاثة مستويات اخري علي المستوي التشريعي تبدأ بانتخابات المجلس الوطني، والمجلس التشريعي للجنوب ثم المجلس التشريعي للولايات، ومن المقرر أن تدير مفوضية الانتخابات تلك الانتخابات وتعلن عنها. مصير الجنوب ودارفور الصفقة.. هي كلمة السر التي تحكم تعاملات فرقاء السياسة بالسودان مع تلك الانتخابات، فالمؤتمر الوطني يعتبرها أفضل الفرص لفوز الرئيس عمر البشير والحصول علي شرعيته الدولية بعد 20 عاما من رئاسة حكومة الانقاذ الإسلامية في ظل ملاحقات المحكمة الجنائية الدولية له والتي أصدرت قرارا بتوقيفه بتهمة ارتكاب جرائم حرب في اقليم دارفور، وفي هذه الحالة يمكن للبشير المساومة مع المجتمع الدولي تضمن اسقاط التهم عنه، لذا جاء تصريح المدعي العام للمحكمة الجنائية اوكامبو الذي شكك فيه من جدوي ونزاهة تلك الانتخابات. وعلي الصعيد الداخلي يجدها الحزب الحاكم خير وسيلة لتأكيد أغلبيته في الحكومة ومجلس الامة، بجانب مباركة تعاملاته المتباينة مع ملف دارفور والتمهيد للحدث الفيصل في تاريخ السودان وهو استفتاء حق تقرير المصير للجنوب بعد أن رفض البشير ترشيح منافس من المؤتمر الوطني لرئيس حكومة الجنوب سلفاكير علي مقعد رئيس الحكومة هناك كنوع من المواءمة الانتخابية وهو ما تجاوبت معه الحركة الشعبية بعدم ترشيح منافس قوي للبشير علي مقعد الرئاسة واكتفت فقط بالدفع بقيادي إسلامي من الشمال وهو ياسر عرمان في ظل سيطرة سلفاكير وقبيلة الدنكا التي ينتمي لها علي أوضاع الجنوب مقابل تقليص أدوار تلاميذ جون جرنج الأب الروحي للجنوبيين والذين ينتمون لقبيلتي الشلق والنوير وهما شركاء الحكم هناك. كما اعتبرت دوائر سياسية مختلفة في السودان انسحاب ياسر عرمان مرشح حكومة الجنوب في الرئاسة مقابل الاستمرار في مستويات الانتخابات الأخري نوعا من المساومة الانتخابية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بحيث تبقي الرئاسة العامة للحزب الحاكم وقيادة حكومة الجنوب للجنوبيين، علي أن يتم تركيز جهود الجنوب في معركة الاستفتاء الذي ينظرون إليه كحق مقدس لايمكن المساس به. ونفس الشيء مع الحركات الدارفورية التي تنظر للانتخابات بأنها أفضل الفرص التي يمكن ابرام فيها اتفاق مع الحزب الحاكم يبقي بتسوية وضعها القانوني علي الارض في اتفاق يضمن لها تمثيلا سياسيا وتنفيذيا في الحكومة والبرلمان فضلا عن لعب دور كبير في قيادة الاقليم مثلما حدث مع الحكومة الشعبية في الجنوب قبل خمس سنوات وهو الأمر الذي سعت له حركة العدل والمساواة الشهر الماضي لكن لم يكتمل تفاصيل الاتفاق الاطاري التي وقعته الحركة مع النظام في الدوحة الشهر الماضي. ومن الطبيعي في ظل هذه الاجواء أن تستغل باقي الاحزاب التي هي في الغالب ضعيفة التمثيل في الشارع للاستفادة منه بتمثيل نسبي في الحكومة والبرلمان خاصة أن تلك الأحزاب تقوم باختيار مرشحيها علي أسس قبلية. وفيما يتعلق بالمواقف الدولية تجاه ما يحدث علي الساحة السودانية فإن هناك انقساما بين فريق داعم ومؤيد لاستكمال ذلك الاستحقاق وعلي رأسه مصر وأمريكا وروسيا وغيرها من الدول الافريقية ويسعي جاهداً لضمان نزاهة تلك الانتخابات في حين يخشي فريق آخر وخاصة من دول الجوار أن يصيب السودان ما حدث في كينيا وزيمبابوي أثناء الانتخابات وعليه طالبوا بتأجيل الانتخابات وهو ما أيدته بعض منظمات المراقبة الدولية. أزمة انسحاب المرشحين أبرز التحديات التي تهدد مشروعية الانتخابات الموقف المفاجيء لعدد من مرشحي الأحزاب الرئيسية في انتخابات الرئاسة بالانسحاب من المعركة وهو ما بدأه مرشح الحركة الشعبية ياسر عرمان من الانتخابات تلاه موقف مشابه لكل من مرشح حزب الأمة الصادق المهدي ومرشح الحزب الشيوعي محمد إبراهيم نقد، ومرشح الحزب الاتحادي حاتم السر، ومرشح حزب الامة الاصلاح والتجديد مبارك الفاضل المهدي، بالرغم من استمرار تلك الاحزاب للمنافسة في المستويات الاخري للانتخابات، وأوضحت مصادر مقربة من المهدي أن موقف الانسحاب من انتخابات الرئاسة تم الاتفاق عليه بين مرشحي الاحزاب علي أن يعلن في توقيت واحد إلا أن الحركة الشعبية بادرت به لامر يتعلق بحساباتها مع المؤتمر الوطني الحاكم. ورقة الانسحاب من الانتخابات حاليا المقررة 11 أبريل الجاري نظريا تعد نوعا من المزايدة لأن باب التنازلات أو الانسحاب أو الطعون تم غلقه قانونا بعد انتهاء فترة تقديم الأوراق ب45 يوما وبالتالي فإن جميع الاسماء ستظل في بطاقة الانتخاب قانونا وستحسب الاصوات التي سيحصل عليها أي مرشح قرر عدم الاستمرار في معركة الانتخابات، ورغم ذلك يبقي إعلان بعض المرشحين الخروج من الانتخابات امرا يقلل كثيرا من مصداقيتها خاصة أن مبرراتهم جميعا تدور حول عدم نزاهة وشفافية الانتخابات وعدم صحة إجراءاتها بدءا من التعداد السكاني وتوزيع الدوائر، وحتي إجراءات الترشيح وطبع بطاقات الانتخابات التي يقولون إنه تم اسنادها إلي مطبعة أحد قيادات المؤتمر الوطني. في مقابل ذلك دعت تلك الاحزاب إلي ضرورة تأجيل الانتخابات لحين تصحيح مسار الإجراءات بشكل محايد علي أن تجري في ديسمبر المقبل رغم أن ذلك لا يتفق ونصوص اتفاقية نيفاشا التي نصت علي ضرورة الدعوة لانتخابات عامة في منتصف الفترة من 2005 موعد توقيعها وحتي استفتاء الجنوب في 2011 وهو ما تم ارجاؤه أكثر من مرة لحين انجاز بعض التشريعات القانونية المكملة لتنفيذ الاتفاقية، وانقاذا للموقف قام بعض الأطراف الدولية المؤثرة علي الساحة السودانية مثل أمريكا عن طريق مبعوثها هناك سكوت جريشن ، ومصر التي أرسلت وفداً رفيعاً للمساعدة لانجاز الانتخابات. وبدت نتائج تلك المساعدات الخارجية في تلويح الأحزاب بعدم الانسحاب والتراجع للمشاركة بعد أن بدأت مفوضية الانتخابات الاستجابة لهم بتحديد سقف الصرف علي الانتخابات بجميع مستوياتها بمبلغ 15 مليون جنيه للحزب الواحد، فضلا عن رفضها تأجيل الانتخابات وتعهد المؤتمر الوطني بنزاهتها.. ووسط ترتيب جميع الفرقاء علي الساحة السودانية أوراقهم في ضوء المستجدات الأخيرة، كشف القيادي بحزب الأمة رفعت المرغني أن الحزب اتفق علي انسحاب زعيمه الصادق المهدي من الانتخابات وهو الأمر الذي نوقش مساء أمس الثلاثاء بعد مثول الجريدة للطبع مع القيادات العليا للحزب.