حدثنا في الحلقة الماضية هرمان إيلتز الذي عين سفيراً للولايات المتحدة في القاهرة بعد حرب 1973 وكيف شعر المصريون بخيبة أمل شديدة من جراء عدم تنفيذ الولاياتالمتحدة لوعودها بتقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية كبيرة لمصر بعد زيارة نيكسون للقاهرة في يونيو 1974 . يقول إيلتز أنه بحلول شهري أغسطس وسبتمبر 1974 كان المصريون يظهرون علامات إستياء واضحة تجاه الولاياتالمتحدة، إذ لم يحدث أي تقدم في مسيرة السلام حيث كان من الواضح أن هذه العملية قد تم عمداً تجميدها من جانب وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر. وكان هذا هو السؤال الذي يتردد دائماً علي ألسنة المسئولين المصريين إلي جانب عدم الاتفاق علي أي مساعدات اقتصادية عسكرية ترك نيكسون الرئاسة بسبب فضيحة ووترجيت وحل محله نائبه فورد. وفي الجزء الأخير من عام 1974 كان المصريون في غاية الغضب. وأتذكر هنا خلال عملي بمكتب وير الخارجية أن هرمان إيلتز السفير الأمريكي لم يكن يلقي نفس الترحاب الذي تعود أن يلقاه في مكتب وزير الخارجية إسماعيل فهمي وهو الذي تعود أن يلقاه كل يوم تقريباً في السابق. في أكتوبر 1974 قام السوفيت بدعوة كل من وزيري الدفاع والخارجية المصريين إلي موسكو، وكانوا في منتهي الغضب لاستبعادهم من عملية السلام واستئثار الولاياتالمتحدة بها وخاصة إتفاق سيناء واحد وجولان واحد. وهنا عرضوا تقديم كل أنواع المساعدات الاقتصادية والعسكرية لمصر، وعاد الوفدان المصريان من موسكو وأفواهما - كما يقول إيلتز - مفتوحة إذا قال لهما السوفيت، لن نوقع أي إتفاقيات معكم قبل زيارة برجينيف للقاهرة في يناير 1975، وعليكم أنتم المصريون أن توافقوا علي عدم إجراء أي مباحثات سلام إلا في نطاق مؤتمر جنيف. بمعني آخر - كما يقول إيلتز - علي مصر أن تجهض أي جهود أمريكية منفردة وتعود مرة أخري إلي مؤتمر جينيف المتعدد الأطراف. وأتذكر تماماً هذه المرحلة إذ كانت الخارجية المصرية مؤيدة تماماً الانفتاح علي الخطوات السوفيتية بعد أن يأست من الولاياتالمتحدة ومن تلاعب كيسنجر بنا. ولذلك يقول إيلتز أن وزير الخارجية إسماعيل فهمي والقادة العسكريين المصريين وكبار المسئولين المصريين كانوا كلهم يحثون الرئيس السادات علي قبول المقترحات السوفيتية. ولذلك كانت واشنطن تتوقع أن يستجيب السادات لذلك في نوفمبر 1974، وهو ما دفع إدارة الرئيس فورد أن تقدم علي بذل مساعي في هذا الصدد بالرغم من إن إسرائيل كانت تقول أنها في حاجة إلي الوقت اللازم لاستيعابها الخسائر التي لحقت بها. قدمت واشنطن اقتراحاً للمصريين بأن كينسنجر سيكون في وسعه في ديسمبر 1974 القيام برحلة إلي المنطقة، يعود بعدها إلي واشنطن ثم يزور المنطقة مرة أخري في مارس 1975، أي نوع من المظهرية الأمريكية المعتادة لمجرد إظهار أن هناك نوعاً من التحرك. يقول إيلتز أنه كان هناك عاملان أثرا مبدئياً علي موقف مصر. الأول ضغط الرأي العام علي الرئيس السادات بأنه لا يستطيع أن يثق في الأمريكيين، ولذلك علينا أن نعود إلي مؤتمر جنيف، والثاني هو أن أياً من وعود المساعدات الأمريكية لم يتحقق. الرأي الآخر الذي كان سائداً بين المسئولين المصريين هو: حسن لنعتقد للحظة أننا نريد أن نتعاون مع الأمريكيين ونقبل بعرضهم، ولكن لماذا لا يبدأ عندها دبلوماسية المكوك فوراً؟ يرد إيلتز علي ذلك طبقاً لرأي واشنطن بالطبع أن الإسرائيليين ليسوا جاهزين بعد لمثل هذا النوع من دبلوماسية المكوك. استغرقت المناقشات بين المصريين لأكثر من أسبوع حول ما يمكن لهم أن يتخذوه من مواقف. وفي النهاية تلقي الرئيس السادات خطاباً من الرئيس فورد قال فيه ما معناه: أنني أرجوك أن تقبل بجهودنا الأمريكية المنفردة وأن تتخلي عن السوفيت. وهنا مرة أخري لم يأخذ السادات برأي معاونيه ووافق علي الرأي الأمريكي ولكن بتحفظات شديدة حضر كيسنجر إلي المنطقة وقام بزيارة عواصمها وعاد إلي واشنطن وبدأ في مارس 1975 جولة أخري. وظن حينئذ أنه حصل علي موافقة إسرائيل عن التخلي عن حقول البترول ( المصرية) في خليج السويس وسحب قواتها إلي ممري الجدي ومتلا. يقول إيلتز أن مسألة من هو الذي سيسيطر علي ممر متلا تركت غامضة دون تحديد وفي نفس الوقت حاولت واشنطن الحصول علي بعض التنازلات السياسية من مصر، حيث تلقي تعليمات من كيسنجر لمحاولة إقناع السادات بذلك، ولكن السادات لم يكن راغباً علي الإطلاق. وفي خلال المفاوضات التي أجراها كيسنجر في جولته الثانية تمت أثارها هذه التنازلات مرة أخري منها علي سبيل المثال إعلان إلغاء حالة العداء بين البلدين. ولكن السادات لم يكن مستعداً لذلك ولكنه وافق علي إصدار إعلان بعدم الالتجاء إلي الحرب. ومن دواعي استياء السادات بل واستياء كيسنجر نفسه - كما يشير إيلتز - تبين خلال هذه الجولة أن الإسرائيليين علي عكس ما بلغه منهم في السابق، لم يكونوا علي استعداد للتخلي عن حقول البترول أو حتي الانسحاب إلي الممرات مما أضطر كيسنجر إلي إلغاء جولته وعاد إلي الولاياتالمتحدة غاضباً جداً، وألقي اللوم علي الإسرائيليين. ويقول إيلتز أنه بكل صراحة فإن الإسرائيليين مسئولين تماماً عن ذلك وخاصة في هذه المرحلة الحرجة. ولذلك ظهر في مصر السؤال التالي: أليس في ذلك دليل كاف علي أن السادات يضع الكثير من البيض لدي الأمريكان وأنه ارتكب بذلك خطأ فادحاً؟ لم يكن أحد يدرك كيف سيتصرف المصريون تجاه فشل دبلوماسية التفاوض مع إسرائيل، السادات تلقي الأمر بهدوء أكبر مما كان متوقعاً. وفي ذلك الوقت أقر الكونجرس الأمريكي تقديم 250 مليون دولار كمساعدات اقتصادية لمصر، ولم يكن ذلك مبلغاً كبيراً في رأي إيلتز ولكنه مع ذلك مثل شيئاً ما. لم تتم الموافقة علي أي مساعدات عسكرية لمصر ولكن السادات استمر في أمله بأن الولاياتالمتحدة ستتوصل في النهاية من عقد اتفاق ثان لفصل القوات. يقول إيلتز أنه من جراء كل هذه التطورات جاء ما يسمي بمرحلة إعادة تقييم السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وهي حقيقة كانت موجهة لإسرائيل، استغرقت العملية ثلاثة أشهر بلغت خلالها إيلتز تعليمات بالقدوم إلي واشنطن لمعرفة المواقف الإسرائيلية ونقلها إلي المصريين، ثم يعود مرة أخري إلي واشنطن لنقل موقف مصر وهكذا دواليك. ومن أمثلة هذه النقاط: أين هما ممري جدي ومتلا؟ هما ممران طويلان، وإلي أي مدي ستنسحب القوات الإسرائيلية إلي جانب النواحي السياسية. ويقدر إيلتزم أنه قام خلال أربعة شهور بما لا يقل عن عشرين رحلة من القاهرة إلي واشنطن. وينتهي أيلتز إلي القول أنه بحلول شهر أغسطس تغيرت الأوضاع لأن مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين ضغطا علي إدارة فورد بألا تضغط علي إسرائيل، أي أن ما يسمي بإعادة تقييم السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط التي كانت أصلاً تعني إسرائيل انتهت. في الحلقة القادمة يتحدث ايلتز عن هذا اللوبي الموالي لإسرائيل من جانب أعضاء مجلس النواب والشيوخ وهو اللوبي المستمر حتي الآن وتمثل مؤخراً في الرسالة التي أرسلها عدد كبير إلي إدارة أوباما تطلب منه الضغط علي الدول العربية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل.