السؤال الذي نحاول أن نجيب عنه هنا هو كيف يصبح الخطاب الديني خطابًا مستنيرًا وعصريا؟ وفي محاولة للإجابة نقول إن هذا التحول سيتم من خلال ثلاثة أبعاد: البعد الأول: فقهي أو لاهوتي: ويركز علي إعادة تفسير مفهوم الحق فكل جماعة تعتبر أنها تمتلك الحق بشكل كامل، وبناء عليه فأية جماعة أخري لا تمتلكه كاملاً لكن الحقيقة التي يجب أن نرجع دائمًا إليها في أن الحق هو الذي يمتلكنا، فالمطلق يمتلك النسبي وليس العكس وإذا امتلك النسبي المطلق، يصبح الإنسان المحدود غير محدود بينما يصبح المطلق محدودًا ونسبيا، وهذا عكس طبيعة الاثنين "المطلق والإنسان"، فالحق هو الله والإنسان لا يمتلك الله لكن الله يمتلكه، والإنسان يفهم الله بقدر استطاعته علي الفهم لكن من المستحيل أن يفهمه كله أو يستوعبه كله، لذلك علي كل جماعة أن تعلن فهمها عن الحق وتتمسك به، لكنها لا تملك أن تفرض مفهومها علي الجماعات الأخري أو تنكر مفهوم الآخرين المختلفين عنها عن الحق بل تحترمه أو تسلب حق الآخرين في ترديد نفس المفهوم، وهذا هو الإيمان في أروع تجلياته، حيث علينا أن نفرق بين النص الديني وتفسيره، فالتفسير يتغير بتغيير الزمان والمكان، وعلينا لكي نفهم الكتب المقدسة الموحي بها من آلاف السنين أن نتعرف علي الخلفية التاريخية للنص "أسباب النزول" مع قرينة النص وأخيرًا نقدم تفسيرًا واحدًا يصلح للعالم والمجتمع الذي نعيش فيه، ودون هذا يصبح النص الديني غريبًا في مجتمعه كذلك الذين يطبقونه. البعد الثاني: إنساني: علي الخطاب الديني أن يدرك أن جمهور المستهدفين كائنات تمارس وجودًا غير مكتمل والمعني هنا أن الإنسان في حالة صيرورة، وهي الظاهرة التي تميز الإنسان عن سائر الكائنات في مملكة الحيوان والتي هي أيضًا كائنات غير مكتملة لكن الفارق بينها وبين الإنسان أن الإنسان يملك تاريخًا متراكمًا ويستفيد من خبراته ويصحح أخطاءه أما الكائنات الأخري فهي لا تعي حقيقة عدم كمالها، فالإنسان يعترف بأنه كائن غير كامل وهذا ما يدعوه لأن يسمع ويتعلم كوسائل من أجل تطوير نفسه، انطلاقا من ذلك فعلي الخطاب الديني أن يعيد صنع الإنسان لتحويل الكينونة إلي صيرورة، فالخطاب الديني الحالي يتبني "أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان" وكلما كانت الفكرة قديمة كانت أفضل، لكن الخطاب اليوم يحتاج أن يتحدث بفكر معاصر ولغة معاصرة متفاعلا مع مقومات العصر بتقديم تفسير جديد يتعامل مع عالم متغير بل طابعه التغيير، وهنا يستطيع أن يقدم البدائل دائما ويتفاعل مع مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان.. إلخ، وذلك ما يطابق الحقيقة التاريخية للإنسان، فهو يعترف بحقيقة الوجود الإنساني المتسامي والمتجه دومًا إلي الأمام، ويعتبر أن النظر إلي الماضي مجرد وسيلة يتفهم بها كيف يبني المستقبل بحكمة وثقة. البعد الثالث: اتصالي: أي تحويل الخطاب الديني إلي حوار حقيقي بمعني وضع الآخر في الوعي، والحوار هنا لا يعني الجدل العقيم، إنما هو وعي بالواقع الإنساني، فالإنسان عندما يتبين واقعه، يدخل في علاقة حوارية مع نفسه أولاً ثم مع مجتمعه الخاص به والأسرة.. الدين، ومع العالم المحيط به بكل ما فيه من اتباع أديان مختلفة أو أعراق أو أجناس.. إلخ، هذه العلاقة الحوارية هي التي تخدم الوعي وهي التي تؤدي إلي الحرية وبالتالي إلي تغيير العالم المحيط، وبلا شك أن الوجود الإنساني لا يمكن أن يظل ساكنًا بلا حركة كما لا يمكن أن يتقدم إلي الأمام علي الكلمات الفارغة الماضوية أو التي تدعو إلي الاختلاف والفتنة، أما الخطاب الديني المفعم بالرؤية الصادقة هو القادر علي تغيير الناس والعالم والحوار عمل إبداعي يحتم ألا يستخدمه الناس كوسيلة لاستغلال الآخرين، فالحوار الحقيقي هو الذي يستهدف تحرير الإنسان، ولذلك لا يمكن أن تتم عملية الحوار في غياب الحب الذي هو أساس الحوار، بل لعله الحوار نفسه، وعلي عكس ذلك فإن السيطرة والأحكام الفوقية من أصحاب الخطاب الديني هي بالضرورة ضد الحب، وإذ كان الحب ضروريا لبدء الحوار، فإن الحوار، لا يمكن أن يتحق بدون شيء من التواضع فكيف يمكن أن أدخل في حوار مع الآخرين إذا كنت أعتبر نفسي مختلفًا عنهم بل وأعتبر نفسي المالك لناحية الحقيقة والمعرفة، وأنكر علي سواي أي نوع من الفهم، وكيف أبدأ الحوار مع جمهوري أو العالم وأنا أعتقد أن دخول العامة في التاريخ يعني بداية الانهيار؟ كذلك كيف أقيم حوارًا إذا شعرت أن وجودي سيتعرض لتهديد بمجرد بداية الحوار؟ من الواضح وبعد الأحداث الأخيرة نحن نحتاج إلي خطاب ديني مستنير معاصر ينتقل بجماهير بلادنا من تخلف الكراهية وبدائية التعصب إلي حضارة السلام وقانون المحبة.