تابعنا في الحلقة السابقة كيف عمل هيرمان ايلتز قبل تعيينه سفيرا للولايات المتحدة في مصر عقب حرب أكتوبر، رئيسًا للقسم السياسي بالسفارة الأمريكية في بغداد عام 1954 في الفترة التي دفعت فيها الولاياتالمتحدة بقوة أثناء عهد جون فوستر دالاس وزير الخارجية إلي إنشاء حلف بغداد لمواجهة التهديدات السوفيتية ومعارضة الرئيس عبدالناصر الشديدة للحلف. يستمر ايلتز في إعطاء انطباعاته حول تلك الفترة التي عاصرت قمة الحرب الباردة بين موسكو وواشنطون وتأثير هذا الحلف علي علاقات العراق مع العالم العربي وإبعاده عن أمته العربية وهو ما أدي في النهاية إلي إسقاط النظام الملكي في العراق وبالتالي نوري السعيد في انقلاب الجيش العراقي عام 1958. يؤكد ايلتز أن انضمام العراق إلي حلف بغداد كان من العوامل التي أدت إلي قيام الثورة العراقية عام 1958 وإسقاط الملكية، ولكن ذلك لم يكن العامل الوحيد ولكنه مجرد أحد العوامل. لم يعزل العراق نفسه عن المنطقة، ولكن في رأيه كان يتوجب علي واشنطون بعد إنشاء الحلف العمل بقوة لإقناع الحكومة السورية بالانضمام له. ولم تكن الحكومة السورية في ذلك الوقت متفقة فيما بينها بالنسبة لمسألة الانضمام للحلف من عدمه إلي جانب استعداد الأردن نفسه للانضمام (النظام الهاشمي الملكي في الأردن كان قريبًا للنظام الملكي الهاشمي في بغداد)، هذا إلي جانب أنه عهد إلي البريطانيين محاولة إقناع دمشق وعمان بالانضمام إلي الحلف وهي خطوة غير موفقة لأن بريطانيا كان موقفها مشبوها وكان يتوجب أن يعهد بذلك إلي الولاياتالمتحدة ولو كان ذلك قد تم، لكان هناك احتمال بأن تكون النتائج غير ما حدث. من رأي أيلتز أنه لو كانت دولة عربية أخري قد قبلت الانضمام إلي حلف بغداد بنفس شروط العراق، أي الابتعاد عن النزاع العربي الإسرائيلي لكان الوضع قد تغير كله، ولكن بالطبع ذلك لم يحدث. وإلي جانب ذلك فإن موقف واشنطون المبهم وغير المفهوم، جعل أعضاء الحلف الآخرين غير واثقين من صلابة موقف الولاياتالمتحدة مما عرقل فعالية الحلف منذ البداية، فبعد أن كانت المحرك الرئيسي لإنشاء الحلف، قررت واشنطون فجأة أنها لا تريد الانضمام إليه كعضو. هذا الأمر كان غير مفهوم للجميع وبالتأكيد لم يساعد موقف نوري السعيد رئيس وزراء العراق. بالطبع حصل العراق علي بعض الأسلحة الأمريكية التي كان يسعي للحصول عليها ولكنه حتي في هذا المجال لم يحصل علي كل ما كان يتوقعه. وفي تقدير أيلتز فإن بلاده أخطأت في ذلك الأمر، إذ جعلت نوري السعيد يعتقد أنه في حالة انضمامه للحلف فإن العراق سيحصل علي زيادات كبيرة في كميات الأسلحة الأمريكية. هذا بالإضافة إلي أن العراق لم يكن لديه في الأصل أموال لشراء هذه الأسلحة علي أية حال. يعتقد أيلتز أن هذه المواقف الأمريكية أضرت بوضع نوري السعيد ولكن في رأيه أن أكثر ما أضره هو ارتباطه الوثيق طوال حياته مع البريطانيين الذين كان موقفهم بارزًا في منطقة الخليج في هذه الفترة (لم تكن دول الخليج قد حصلت علي استقلالها بعد من بريطانيا) وعندما قامت ثورة العراق عام 1958، كان من ضمن الحجج التي قيلت في ذلك الوقت أنه لو كانت بريطانيا قد استجابت لطلبات نوري السعيد المستمرة بأن تكون الكويت جزءًا من مقاطعة البصرة العراقية كما كان الأمر خلال الحكم العثماني، لكان ذلك قد أنقذ النظام الملكي في العراق. الكويت في ذلك الوقت لم تكن قد منحت استقلالها بل كانت محمية بريطانية، وكان من رأي العراق أنه يجب إعادتها للعراق ولو كان ذلك قد تم فإن نوري باشا كان سيصبح بطلاً قوميًا في نظر الشعب العراقي ولأمكنه أن يقاوم أي انعزال عن العالم العربي. كل ذلك بالطبع ما هو إلا مجرد تكهنات وهو أمر يقر به إيلتز نفسه، ولكنه يسردها كما يقول للتدليل علي أن انضمام نوري السعيد والعراق لحلف بغداد لم يكن هو العامل الوحيد الذي أدي إلي قيام ثورة العراق، فقد كانت هناك عوامل عديدة أخري. وبالرغم من كل ذلك يري أيلتز أن نوري السعيد كان من أكثر الشخصيات العراقية التي قابلها ذكاء، ولم يكن ساذجا كما أدعي البعض بل واقعيا ولم يكن مخدوعا بالشعارات العربية. وقد يرجع ذلك إلي أن أمه كانت كردية، وكان سياسيا قديرا وكفؤا ومن سوء حظه أن جيله من السياسيين العرب الذي عاصر الحرب العالمية الأولي كان قد قارب علي الانتهاء مع ظهور جيل آخر من القوميين العرب كان ينظر إلي القومية العربية من منظور مختلف بقيادة الشخصية الكارزماتية جمال عبدالناصر الذي ظهر في خضم النزاع العربي الإسرائيلي. يعتقد أيلتز أنه علي الأرجح كان من الخطأ أن تولي نوري السعيد رئاسة الوزارة العراقية في هذه الفترة ولكن لم تكن هناك شخصية عراقية بمثل كفاءته تستطيع شغل مثل هذا المنصب. أرجو أن تسمحو لي برواية شخصية من جانبي عن هذه الفترة فقد كنت مسئولاً عن قسم العراق بالخارجية المصرية وكانت العلاقات المصرية العراقية متوترة جدًا في هذه الفترة وطردت بغداد العديد من الدبلوماسيين المصريين. عقب الثورة العراقية بيوم أي في 15 يوليو 1958 التي أعلنت تضامنها التام مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا في ذلك الوقت) وحماسها للانضمام لها، طلب مني مع آخرين السفر فورًا إلي العراق لعرض ما تستطيعه القاهرةودمشق تقديمه إلي هذه الثورة. من ضمن أهداف هذه الزيارة أيضًا محاولة معرفة مخططات حلف بغداد ضد عبدالناصر ومصر والقومية العربية. كل مسئولي الثورة كانوا متحمسين جدًا لعبدالناصر، ولكن عندما طلبنا الإطلاع علي وثائق حلف بغداد قيل لنا أن الخزينة الخاصة بها لا يمكن العثور علي مفاتيحها مما جعلنا نؤمن أن أنصار الحلف لايزالون موجودين. في النهاية أمر رفعت الحاج سري من كبار الضباط الذين قاموا بالثورة بنسف الخزينة وتسلمنا صورًا من هذه الوثائق وهو ما حدث. ماذا حدث لإيلتز بعد هذه الفترة الذي يبدو أنه مر بمغامرات وأحداث مثيرة في عالمنا العربي، هذا ما سنراه في حلقة قادمة.