استعرضنا في حلقتين سابقتين ذكريات هرمان أيلتز سفير الولاياتالمتحدة بالقاهرة بعد حرب أكتوبر 1973 في العالم العربي حيث عمل من قبل في السفارة الأمريكية في جدة ثم في القنصلية في عدن في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، والمغامرات التي مر بها بصفة خاصة في اليمن أثناء عهد الأمام أحمد. نقل أيلتز إلي السفارة الأمريكية في بغداد عام 1954 كرئيس للقسم السياسي بالسفارة أثناء فترة الملكية العراقية ونوري السعيد رئيس الوزراء الذي كان مواليا للغرب في الفترة وكان علي عداء مع الثورة المصرية وعمل خاصة في إنشاء حلف بغداد الذي عارضه الرئيس عبدالناصر بشدة أي أن أيلتز كان بطريقة غير مباشرة يتعامل مع مصر خلال هذه الفترة. يقول أيلتز أن نوري السعيد لم يكن قد تولي رئاسة الوزارة العراقية في ذلك الوقت، وإنما رئيس الوزراء كان فؤاد الجمالي وهو شخصية محترمة وشيعي وخريج جامعة كولومبيا الأمريكية وشغل عدة مناصب وزارية من قبل. كان القائم بالأعمال الأمريكي في هذه الفترة بعد نقل السفير، يتحدث في كل مكان أنه هو الذي عمل علي تعيين الجمالي رئيسا للوزراء وهي خطوة وصفها أيلتز بالغبية، والجوفاء في نفس الوقت، كان هذا القائم بالأعمال الأمريكي يدعي فيليب ايرلاند يحاول أن يظهر للبريطانيين ذوي النفود القوي في العراق أنه هو الذي اقترح علي المسئولين العراقيين تعيين الجمالي رئيسا للوزراء، علي العموم لم يبق الجمالي رئيسا للوزارة لفترة طويلة حيث لم تكن لديه القاعدة السياسية التي تساعده علي ذلك ثم تولي نوري السعيد باشا في خريف عام 1954 رئاسة الوزارة للمرة الحادية عشرة كما يتذكر، وكانت غالبية أعضاء حكومته من المدرسة القديمة أي أصدقاء وزملاء له. والأمر في تصور أيلتز كان بمثابة مجرد إعادة أوراق الكوتشينة. نوري السعيد كما يصفه أيلتز كان شخصا قصير القامة لكن ذو خبرة سياسية واسعة وكان قريبا جدا للبريطانيين واعتمد عليهم لمدة طويلة. في تلك الفترة شعر العراقيون أنهم بحاجة لأسلحة جديدة لجيشهم وكانت الولاياتالمتحدة علي استعداد لتزويدهم بها إلي جانب ما تقوم به بريطانيا. في تقييم أيلتز أن ذلك جاء بعد الحرب العربية الإسرائيلية الأولي عام 1948 وشعر العراقيون عام 1954 أن هناك تهديدات لهم ليس من جانب الإسرائيليين ولكن من جهات أخري. وفي الواقع لم يشعر نوري السعيد كما يقول إيلتز بأي تهديد من جانب إسرائيل ولكن من جانب الاتحاد السوفيتي خاصة وأن تلك الفترة كانت ذروة الحرب الباردة، وفي تقدير نوري السعيد أنه مع أن بريطانيا كانت المصدر الرئيسي لأسلحة الجيش العراقي، إلا أن العراق كان في حاجة إلي أسلحة أكثر وأفضل. وفي تلك الفترة كان للجيش العراقي نفوذ كبير في المجتمع العراقي وكانت القيادة العراقية تحرص علي أن يظل هذا الجيش سعيدا، ولكن لم تكن بريطانيا قادرة علي سد احتياجاته من الأسلحة مثل الولاياتالمتحدة خاصة إذا ما كان العراق علي استعداد لاتخاذ خطوات محددة نحو إنشاء نظام أمني أو أن تشارك في إنشاء هذا النظام المعارض لنفوذ وتهديدات الاتحاد السوفيتي تحت اسم منظمة الشرق الأوسط الدفاعية وهو موضوع حاول البريطانيون لعدة سنوات الدفع به ولكنهم فشلوا في تحقيقه وبالطبع كانت بريطانيا تريد أيضا تحجيم مصر وسياسة عبدالناصر في العالم العربي. ولكن مع تولي فوستر دالاس وزارة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس ايزنهاور دفع بكل قوة لما سمي في ذلك الوقت بفكرة الحزام الشمالي أي المنطقة التي توجد في جنوب الاتحاد السوفيتي مثل تركيا والعراق بالرغم من أن الأخيرة ليست متاخمة للاتحاد السوفيتي، اضافة إلي إيرانوباكستان وإلي حد ما أفغانستان، وكلف دالاس السفير الأمريكي الجديد في بغداد الذي عين في نهاية عام 1954 العمل علي اقناع العراق للمشاركة في هذا التجمع الجديد مقابل مساعدات عسكرية ملموسة من جانب واشنطون. الأمريكيون العاملون بالسفارة الأمريكية في بغداد ومن ضمنهم أيلتز رئيس القسم السياسي لم يكن في اعتقادهم أنه يوجد احتمال باقناع العراقيين بذلك، ولكن جد عامل جديد في الموقف وهو القيادة التركية الجديدة في أنقرة وخاصة عدنان مندريس رئيس الوزراء التركي ووزير خارجيته أوغلو اللذان قاما بزيارة بغداد في يناير 1955 وأقنعا نوري السعيد بالتوقيع علي حلف تركي عراقي للدفاع المشترك. كان هذا هو الأساس الذي تم بموجبه إنشاء حلف بغداد فيما بعد ثم انضمام بريطانيا إليه إلي جانب كل من باكستانوإيران، وعقد أول اجتماع له في نوفمبر 1955 في بغداد حيث أنشأت سكرتاريته هناك. يعترف أيلتز أن الولاياتالمتحدة كانت هي العامل الرئيسي في إنشاء الحلف وخاصة وعدها بتقديم أسلحة أمريكية وأن مدي تعاون الجانب العراقي - وهو ما استخدمه الأتراك أيضا مع بغداد - هو الذي سيحدد حجم هذه الأسلحة. هناك خطاب ملحق بالحلف الدفاعي العراقي التركي ينص علي أن موقف العراق بالنسبة للنزاع العربي الإسرائيلي لم يتغير، وكان ذلك محاولة عراقية لاقناع العالم العربي أن موقف بغداد تجاه القضية الفلسطينية لم يطرأ عليه أي تغيير. كانت هناك قوي في واشنطون كما يقول أيلتز تدفع إلي انضمام الولاياتالمتحدة للحلف، مقابل آخرين يرون أن مثل هذه الخطوة ستؤدي إلي معاداة عبدالناصر الذي كان معارضًا بشدة لكل من نوري السعيد وإسرائيل في نفس الوقت. وكان هناك فريق ثالث يري أن هذا الأمر سيؤدي إلي اضطرار واشنطون لتقديم ضمانات أمنية إلي إسرائيل، في وقت ما طلب السفير الإسرائيلي في واشنطون البحث عن إمكانية انضمام إسرائيل للحلف وهو أمر لم تكن ترغب فيه الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت. فريق رابع في واشنطون كانوا يرون أن اليونانيين سيشعرون بالاستياء لأن ذلك سيعني تأييد الولاياتالمتحدة للأتراك ضد اليونان في ضوء التنافس والعداء التركي اليوناني، ومجموعة أخري بزعامة بانكر سفير الولاياتالمتحدة في الهند الذي قال إن الهنود مستاءون بسبب انضمام باكستان للحلف. وفي النهاية وبالرغم أن الولاياتالمتحدة كانت هي المحرك لإنشاء حلف بغداد، إلا أنها اضطرت إلي أن تقبل بأن تصبح عضوا مراقبا فقط ولو أن ذلك لم يكن يعني أن نفوذها كان أقل من الآخرين بل علي العكس كان أكثرهم، وكانت فترة أيلتز كرئيس للقسم السياسي بالسفارة متعلقة بالحلف أكثر من غيرها من الأمور. نتابع مع أيلتز في حلقة قادمة تأثير حلف بغداد علي العلاقات العراقية مع العالم العربي وخاصة مع مصر عبدالناصر.