نعم سنظل نعيش في كل مواسم الامتحانات الجامعية أحداث هذا المسلسل الذي يدور الآن داخل الجامعات المصرية، ونعني به قضية النقاب، والتي انتقلت من الجامعة إلي المحاكم وأقسام الشرطة، بفعل تلك القرارات العشوائية التي يصدرها ولاة أمور تعليمنا العالي، علي اختلاف المستويات، وتركوا أمر تنفيذها لعمداء الكليات وأساتذتها، وبأساليب تفقد هيبة أستاذ الجامعة، وما ينبغي علي الطالب والطالبة من احترام وتقدير له. ولسنا بحاجة إلي الإطالة فيما حدث من صراعات بين الأساتذة والمنتقبات، ومن اتهام كل منهم للآخر، وكتابة المحاضر بأقسام الشرطة، ودخول القضاء الإداري، مرة بحق الجامعة في اتخاذ ما تشاء من قرارات، بل واختلاف الأحكام من إقليم لآخر، إلي أن حسمت المحكمة الإدارية العليا الأمر برفض قرارات ولاة أمور تعليمنا العالي. بمنع الطالبات المنتقبات من دخول الامتحانات. ولكن وللمزيد من سكب الزيت علي النار - كما يقولون - صرحت بعض القيادات الجامعية بأنها ستستشكل الحكم، وإن كان هناك من صرح بالتزامه بتنفيذه لحكم المحكمة الإدارية العليا. ويكاد يكون رئيس الجامعة الوحيد الذي لم يدخل هذه اللعبة الهزلية، وتصرف بأسلوب حضاري واع وهو رئيس جامعة الأزهر دكتور أحمد الطيب، الذي قام ببعض الإجراءات البسيطة جداً داخل لجان الامتحانات، وتتلخص في عدم وجود رجال من الأساتذة والإداريين في لجان امتحانات المنتقبات وانتهت المشكلة. أما غيرها من الجامعات المصرية فقد وقعت في حيص بيص. ( أي في شدة يعسر التخلص منها)! وحدث الصراع والنزاع داخل حرم يفترض أنه يتمتع بالقداسة وبالروح العلمية الليبرالية. إننا هنا لا ندافع بأي حال من الأحوال عن المنتقبات بل وأكثر من هذا - كما سيتضح بعد -إننا نري أن هذا النقاب يعد أحد الكوارث التي ابتلينا بها في العقود الأخيرة بسبب هيمنة الاتجاهات الجامدة المتخلفة التي انتشرت في مصر، وبالتحديد منذ سبعينيات القرن الماضي عندما تم توظيف الدين من قبل السياسة لخدمة أغراضها، والقضاء علي فكر الاستنارة، لأسباب أبعد ما تكون عن الدين وخدمته. وإنما الذي نطرحه هنا هو ذلك الأسلوب غير الحضاري وغير الواعي من قبل ولاة أمور تعليمنا العالي في قضية ذات حساسية خاصة، بل إن وجودها وانتشارها في الجامعات يكشف عن إخفاق هذه الجامعات في مقاومة الفكر والتوجه الذي أدي إلي انتشاره. وانتشار أفكار الجمود والتخلف، وإعطاء الفرصة له من خلال عشرات الوسائل، ولم لا، والكتب والشرائط التي تموج بهذا الفكر، بل وبالخرافات يتم بيعها داخل الجامعات، كما يتولي أنصاره بمد يد العون للطلاب غير القادرين لاستقطابهم، يحدث هذا علي مرأي ومسمع من القيادات الجامعية، ولا أحد يتحرك. علي أي حال نقول: إن ما يحدث داخل الجامعات من هذه الظواهر، وفي القلب منها انتشار النقاب، والاهتمام المفاجئ بمقاومته، واعتباره قضية حياة أو موت للقيادات الجامعية، إنما هو انعكاس لما يحدث في المجتمع تجاه هذه القضية، ففي الوقت الذي ينشغل فيه الآخر المتقدم باختراق الفضاء، وأعماق البحار والمحيطات، والكشف عن المزيد من الاختراعات والابتكارات نقول في ظل هذا الوضع فوجئنا بإثارة هذه القضية، بل وباتت تفرض نفسها، وغطت علي قضايا السياسة والاقتصاد والبطالة، وانفلونزا الخنازير وعشرات القضايا الحياتية اليومية، بل وعلي ما حدث علي حدودنا الشرقية، مع أن هذه القضية ظهرت - وكما هو معروف - عندما أثيرت بالصدفة باكتشاف شيخ الأزهر - في إحدي زياراته للمعاهد الإبتدائية الأزهرية - بوجود طفلة صغيرة منتقبة، ومعروف بقية القصة وما حدث منه تجاه هذه الطفلة الصغيرة. وبمجرد نشر وسائل الإعلام للحدث تزايدت التعليقات وردود الأفعال، وإن كان معظمها يحمل هجوماً وإدانة لشيخ الأزهر وللمثير واللافت للنظر، أنه ولأول مرة يلتقي دعاة السلفية الجامدة المتخلفة، مع دعاة الليبرالية وحقوق الإنسان في توجيه هذه الإدانة وهذا الهجوم علي شيخ الأزهر، تحت دعاوي حق يراد بها باطل، فالجامدون المتخلفون ينطلقون من اعتبار النقاب زياً إسلامياً يجب الالتزام به، بينما ينطلق الليبراليون، وبوتيكات حقوق الإنسان من اعتبار ارتداء النقاب من الحريات الشخصية التي يجب عدم المساس بها. أما لماذا هذا التوافق بين اتجاهات متناقضة؟ فالإجابة ببساطة هي تحقيق المصالح الشخصية والأيديولوجية، والنيل من المؤسسة الدينية ممثلة في الأزهر الشريف. وأياً كانت ردود الأفعال حول هذه القضية، فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: ماذا كان موقف الجامعات، بل وكل من تناول هذه القضية تجاه النقاب لو أن شيخ الأزهر لم يقم بهذه الزيارة الصدفة، ويكتشف هذه الطفلة؟ ولماذا لم تواجه الجامعات قبل هذه الحادثة شيوع ظاهرة ارتداء النقاب بداخلها؟ ولماذا أيضاً لم يصدر عن الأزهر من قبل ما أجمع عليه علماؤه من أن ارتداء النقاب عادة لا عبادة، وأنه يقع وفقط في دائرة المباح بل وربما يدخل في دائرة المكروه الذي يمكن أن يصل إلي الحرام إذا ترتبت عليه ما يشكل إضراراً للمجتمع، ومن باب درء المفاسد مقدم علي جلب المنافع كما يقول أهل الاختصاص في علوم الدين. وبعيداً عن الجدل الديني حول النقاب نقول: إن هناك عشرات الأبعاد المجتمعية والثقافية والتربوية التي تفرض ضرورة مواجهة انتشاره. ويأتي في مقدمة الأبعاد المجتمعية مجموعة التفاعلات الحياتية اليومية التي نشاهدها في العديد من المواقف، وقد تؤدي إلي إثارة الفتن الطائفية، والسلوكيات غير المرغوبة من جانب المنتقبات أو ضدهن. أما الأبعاد الثقافية، فإن النقاب يكشف عن خلل في المنظومة الثقافية بمفهومها الواسع الشامل، والتي ابتلينا بها في العقود الأخيرة، بفعل عشرات العوامل من الداخل، ومن الفكر السلفي الجامد الوافد في أعقاب الخروج الكبير لبلدان الخليج، وأيضاً التفسخ بفعل فضائيات العهر والفجور، والذي ترتب عليه - وكرد فعل مضاد - شيوع التيارات الدينية المتشددة، بل والمتشنجة. ونأتي للبعد التربوي لقضية النقاب، ولهذا البعد وجهان: الوجه الأول يتعلق بالمؤسسات التعليمية. حيث إنه من غير المقبول تربوياً، بل ولا يمكن أن تتم العملية التعليمية دون التفاعل والمواجهة المباشرة بين المعلم والمتعلم، وبالنسبة للجامعة علي وجه الخصوص، فإنه من المعروف جامعياً أن للجامعة ثقافتها الخاصة بها وهي ثقافة العلم، وليبرالية الفكر، وهذه الثقافة تفرض علي من يتعامل معها الالتزام بقيمها وأخلاقياتها، تستوي في ذلك المنتقبات وغيرهن من السافرات. لهذا ولغيره نقول: إن قضية النقاب هي بالدرجة الأولي قضية مجتمعية ثقافية تربوية، ويجب التعامل معها وفق هذا المنظور، أما التعامل معها أمنياً، أو من خلال المحاكم وأقسام الشرطة فهو دليل فشل واخفاق المؤسسات المعنية بهذا الأمر، وفي القلب منها المؤسسات التعليمية والجامعية علي وجه الخصوص بل وسنظل نعاني من هذه القضية في كل مواسم الامتحانات الجامعية.