كنا صغاراً في مرحلة الدراسة الابتدائية وكان أحدنا دون المستوي الذهني والدراسي المناسب إذ كان لا يجيد إلا ترديد ما يسمعه منا في محاولة يائسة لإفساح مكان له بيننا.. وكان مدرس الفصل يتندر ساخراً حين كنا نحاول مساعدته في الإجابة علي أحد الأسئلة التي يقذف بها المدرس فيقول موجهاً حديثه إلينا يمكنكم أن تقرأوا له وأن تكتبوا له ولكن من غير الممكن أن تفهموا له. ولقد دارت عجلة الزمن وتفرقت السبل وغاب صاحبنا ردحاً من الزمن حتي عاد بالجلباب واللحية والمال وأصبح يتصدر واجهة العمل الاجتماعي والخيري والاقتصادي ويشار إليه بالبنان وما لبث أن أصبح نائباً في البرلمان. وفي لقاء جمعنا بمحض الصدفة حاولت أن أبادله أطراف الحدث ولم أشأ أن أسبب له حرجاً فيما لو ذكرته بما قد سلف ولكنني بعد أن هنأته بالفوز في الانتخابات وأثنيت علي النتائج سألته عن برنامجه السياسي وأهدافه فأجاب تطبيق شرع الله ورفعة شأن الإسلام. وعندما حدثته عن المواطنة وعن التاريخ السياسي للحركة الوطنية المصرية وضربت له مثالاً بما حدث في ثورة 1919 وقد كان الطلبة هم لهيبها ومنهم القبطي عريان يوسف طالب الطب الذي حاول اغتيال يوسف باشا وهبة رئيس الوزراء الذي خالف اجماع الحركة الوطنية المصرية بقبول الوزارة خلال زيارة لجنة ملز لتقصي وضع مصر ونادت الأصوات بضرورة اغتياله حتي أن بعض خطباء المساجد راحوا يرددون الآية الكريمة "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم". وأزاء هذا الاجماع فما كان من هذا الطالب القبطي إلا أن ألقي عليه قنبلتين ورفض الهروب خوفاً أن يشاع أن المسلمين قد قتلوه لأسباب دينية. وكنت أود الدليل بهذه الحادثة أن المواطنة هي البوتقة التي ينصهر فيها الجميع انتماء لمصر الوطن ووصولاً إلي صنع نهضة حقيقية. وحينما أكملت حكايتي وانتظرت تعليقه امتقع وجهه وأشاح غاضباً متشحاً بالصمت مكفهر الوجه ساخراً وحينئذ ذكرته بما كان يقول لنا المدرس من أنه لا يمكننا أن نفهم له غير أنه رد بإقتضاب وضجر قائلاً هذا كلام العلمانية الملعونة ولم ينس أن يدعو لي الله بالهداية والإرشاد.. في طريق عودتي إلي القاهرة أخذت أتذكر هذا الحديث مستعرضاً مواصفات هذا الرجل ومقوماته في ظل ما آل إليه حاله وخلصت إلي أنها سمات هذه المرحلة التاريخية الخاملة فقد صار الصمت فضيلة والطاعة فريضة والفهم إثما.. حقاً إنه زمن الأدعياء والأغبياء. ولقد تعددت آنذاك الأفكار والخواطر غير أن أحدها قد سيطر علي كل تفكيري وهو يتعلق بالقاهرة وناسها.. ما شأنهم وأخذت استرسل في ذلك استرسالاً غير محدود فأنا من أبناء الأقاليم وأول ما ينحسر عني حين تطأ قدماي أرضها هذا الشعور بالزهو والنشوة الذي كان يصاحبني ببلدتي وتتلبسني ثقافة أخري نابعة من إحساسي الكامل بالفردية وإن تعارضت مع ظاهر الأمور من حيث ارتباطها بالزحام وهي مدينة غير متجانسة مادياً ولا ثقافياً ولا معماريا ولا إنسانياً فقد صادفت عصابات الأقاليم الذين نزحوا إليها وشغلوا أهم المواقع الوظيفية ولم ينس بعضهم أن يصطحب معه "المصطبة" فقد ظل يمارس أعمال هذه الوظيفة في إطار تصاريف العمدة أو شيخ البلد أو غيرهما من كبراء البلدة. كما صادفت قوافل أخري من أرباب الجلباب واللحية تهرول إلي المساجد والزوايا التي اقتصرت فيها الصلاة علي أرباب بعض الجماعات من دون الأخري فهذا مسجد أنصار السنة وهذا للجماعة الإسلامية وذاك مسجد للسلفيين وآخر للإخوان المسلمين وأخير للجهاد. قباب ومآذن ومكبرات صوت تنطق عند حلول الأذان جميعاً وفي مربعات مكانية محدودة وكل يصدح بصوت مختلف لتتداخل الأصوات وتتشنج الحناجر من فوضي سمعية هي أبعد ما تكون عن روح الإسلام أليس شيئاً عجيباً إذن؟ والأعجب عجز وزارة الأوقاف عن توحيد الأذان. في تراثنا الأدبي والشعبي والفني يمجدون الشخصية المصرية ابن البلد ويصرون في إلحاح علي وجود هذه الشخصية رغم أنني ظللت طيلة عمري أحاول رصد نموذج لما أملوه علينا وفرضوه بالإلحاح غير أني لم أصادف في تأملاتي الواسعة سوي هذه الشخصيات التي تجمعها تلك القسائم المشتركة المتوافرة بوضوح والتي أصبحت تشع من المواطن المصري في أي مكان أو موقع وعلي أي مستوي بصفاته الناصعة التي تميزه عن غيره من الجنسيات الأخري وهي تتمثل في كونه إنساناً انتهازياً حلنجياً حدق لا يهتم بشيء سوي بكسب المال ولا نبالغ أيضا إذا أضفنا الكذب والنفاق إلي تلك الباقة. أليست هذه القسائم المشتركة بموضوعية تصلح لأن تفسر لنا هذه السلوكيات وهذا السقوط الأخلاقي المتردي ربما كانت هذه الحقائق صادمة ولكن واقعنا السياسي والوطني يفرض علينا المواجهة ذلك أنه إذا كان هذا هو حال القاهرة والتي هي طاردة للأنماط السلوكية وهي مصدر صنعها فما تلبث الأقاليم أن تحاكيها ليتردي هذا الواقع فنصير أسري للفساد والتعصب والغباء. أليست هذه التركيبة الثقافية غير المتجانسة هي التي قذفت لنا بمثل هذا النائب لكي يمثلنا في البرلمان والأعجب أننا كنا نقاتل لكي نمكنه من الفوز سواء هو أو قرينه الفاسد أو الجاهل أو الأمي ولا عجب أيضا حين يبدأ تقويمنا الوطني وينتهي عند عمر فنان أو لاعب كرة أو سياسي خامل.