ليست مسألة حظ ولا مسألة ظروف تاريخية ولا مسألة سوء تخطيط... فقط. الفشل في إدارة المال والأعمال مثله مثل الفشل في بلوغ الحكمة واستنتاج الحقيقة المطلقة، كلاهما يبدأ من واقع يبدو مفهوما ومدروسا لكنه عادة ما يكون محكوما بتطلعات وغيبيات لا سبيل لسيطرة العقل عليها، فإذا بهذا الواقع يكشر عن أنيابه ليفترس الحالم والطموح، القانع والجشع، العاقل والأرعن. يندفع الناس في اتجاه يبدو أنه يوصلهم للأمل الذي يصبون إليه، الثراء، الأمان المادي، السطوة الاجتماعية، فرحة التملك! لكن الكثيرين لا يحصدون سوي خيبة الأمل والانكسار. خطأ واحد جسيم يحول الفشل المحتمل إلي كارثة غير محتملة، والكارثة إلي مقصلة تحصد حلم الثراء ورءوس الحالمين معها. ولكن أي نوع من الحلم هذا؟ ما مداه ومن المستفيد منه؟ حلم المال والأعمال الذي بات يؤرق الصغير والكبير، المالك والمعدم، صاحب المصنع وبائع المناديل الورقية في إشارة المرور؟ كيف توحش الحلم المالي والرأسمالي إلي هذا الحد حتي بات الأمل الوحيد الذي يصبو إليه معظم الناس هو تكديس المال والانتفاع بالملكية الخاصة، الخاصة دون غيرها؟ كيف بات الفرد ورغباته الفردية هما المقياس الوحيد للنجاح والتميز؟ وكيف بات الفشل في تكديس المال مربط الفرس في تعريفنا لمفهوم الفشل؟ أصبح الفاشل يتنصل من المسئولية ويعممها، والناجح ينفيها عن الآخرين ويقصرها علي نفسه لتصبح مسئولية نجاحه وثرائه مسئولية فردية لا يشاركه فيها أحد. الفاشل يهرب بجلده أولا ويبيع جلد أخيه لو لزم الأمر، والناجح يبيع الكل، يصعد علي أكتاف الجميع، هؤلاء المجهولين الذين يسميهم "مجتمع". أحياناً تتسم الطموحات الكبيرة برؤية وبصيرة نفاذة لا يستشفها سوي العارف وذوي الخبرة. هؤلاء يندفعون بقلب جامد وجيب عامر ويثمر اندفاعهم المحسوب عادة خيرا عليهم وعلي ذويهم. وأحياناً أخري يتم تبرير الخسارة بكافة الأشكال الممكنة، القائمة فعلياً والمحتملة، وتعلق علي شماعة الحظ عباءة الفشل السوداء. مثل الأفراد في ذلك مثل الشعوب، مثلنا في مصر، شعب خاسر فاشل ونخبة ثرية مستغلة تعمل لحساب الفرد الواحد. يبدو أن حب المال والملكية شكل من أشكال الجنون الإنساني، وكأن الإنسان يتخلي عن صوت العقل وينصت في جنون العظمة المتفاقم لصوت واحد هو صوت رنين الذهب. كأن عينيه قد حلت محلهما علامة الدولار كما كان يحدث لعم دهب وهو يفتح خزائنه في مجلة ميكي. طمع أو جشع أو طموح أرعن. لكنه كان في الماضي يضحكنا وأصبح اليوم يبكينا أو نبكي عليه. فرد وحيد وأعزل رغم المال ورغم النجاح المادي الهائل الذي يقابله شكل من أشكال الفشل الإنساني. في كافة الأحوال يظل الفرد هو المقياس وليس الجماعة. حتي عندما يصلح حال البعض ويوزعون من مال الصدقة والزكاة والتبرعات، فإن حلم الصعود والثراء يظل حلماً فردياً بحتاً. يدعي بعض الناجحين بمقياس الثروة أن صعودهم الفردي يساهم في صعود الجماعة، ولكن أي جماعة يقصدون؟ الأسرة ومحيطها الضيق؟ الجماعة الكبيرة التي هي مجموع الأفراد في المجتمع الواحد؟ أم الجماعة الصغيرة التي تتكتل في مواجهة الأفراد، جماعة الأغنياء والنخبة؟ والحقيقة أن الثراء الفردي أنواع ومراتب، لا حدود له وليس له روافد أو أذرع معطاءة. لم أجد أحدا اكتفي ذات يوم وقال ها قد بلغت حد الثراء الذي أتمناه والآن يمكنني أن أستريح وأنعم به مع ناسي وأحبابي وأفيض به علي غيري. لم ألتق أحداً يقول صادقاً إن الثراء يعم. الثراء دائماً يخص، يخص الفرد وأبناءه ويتحول جزء ضئيل منه لحسنة جارية تذهب للفقراء الذين تحولوا بدورهم لشحاذين محترفين. الكل يكذب ويدعي أن ثراء الفرد من ثراء الأمة. كذب حلال، كذب يبرره شرع الله الذي نتحدث كثيرا باسمه، فالأمة علي حالها، لم يغنها أغنياؤها ولا مؤمنوها. مضحكة ومخزية أحياناً دعاوي بعض رجال المال والأعمال - علي تباين اتجاهاتهم السياسية وانتمائهم الديني - وهم يتحدثون عن "حال البلد" ويتشدقون بكلمات مثل "المجتمع" و"الوطن" و"الوضع الاقتصادي في البلد"....وكأنهم فعلا معنيون بحال الناس، بالجماعة الكبيرة، بإخوتهم في الإنسانية وفي حقوق المواطنة. ينسون في العموم أن هذا الوضع الاقتصادي هم أول من ينبغي أن يسألوا عنه ويحاسبوا عليه، ليس لأنهم وحدهم المسئولون، فالقيادة السياسية التي تدعمهم والسلطة الدينية التي يستندون أحياناً إليها لتبرير ثرائهم، تشاركهم تلك المسئولية. باسم الله تزداد العائلات الثرية ثراء والعائلات الفقيرة تخلفا وفقرا وتعاسة. يتحدث هؤلاء عن حال البلد الذي يقف في طريق مشروعهم الخاص، ولا يتحدثون عن حال البلد الذي شاركوا في صنعه، حال البلد الذي انحدر وتفاقمت علاته وشارف عموم أهله علي الهلاك. في عالمنا اليوم، أصبح السياسيون خدام رجال الأعمال وشارك رجال الدين في الحفاظ علي حالة الفقر والاستفادة منها سياسيا وتبريرها بشتي الدعاوي المغرضة، فالغني والفقير والفوارق بينهما يدعمان بشكل ما سلطة الدين وسلطة المفسرين. والحقيقة أن تفسير رجال المال والأعمال لمعني الجماعة قد أصابه عمي حيسي أبدي. الجماعة تتلخص من وجهة نظر الكثيرين منهم سواء كانوا علمانيين ليبراليين أو متدينين، حداثيين أو سلفيين، في الأسرة والأقارب من الدرجة الأولي والثانية. يقول هؤلاء بصلف وعنجهية الفرد الأناني، إن الله نفسه خلق البشرية هكذا، طبقات تعلو واحدتها علي الأخري. يدعون إنه حلل الملكية الخاصة بلا حدود وشرع التنافس الحر وشجع علي التجارة. يخلطون بين التجارة والاستغلال، الربح والتربح، الطموح والطمع. يتكلمون باسم الدين، ويعرفون أن الأديان سلطة، وأن كل سلطة سياسية كانت أو دينية جاءت لتدعم سلطة المال ورجال الأعمال. والسؤال الذي لم أجد له إجابة حتي اليوم هو إلي متي يظل الفقراء صابرين علي فقرهم؟ إلي متي يستطيع النخبة من الأغنياء استغلال الفقراء وتضليلهم باسم القانون الوضعي والإلهي؟