تصاعدت منذ أكثر من عقد ونصف من الزمان موجة النقد المجتمعي لبعض الممارسات الإعلامية من جانب بعض وسائل الإعلام خاصة الصحف غير المملوكة ملكية عامة، وتزايد ذلك مع بدء السماح للقطاع الخاص بامتلاك قنوات فضائية عبر الأقمار الصناعية. ويبدو أن هذا كان أمرا طبيعيا بعد سنوات طويلة من إدارة وسائل الإعلام العربي بما يمكن أن نطلق عليه الإلزام والالتزام.. بين قائمة طويلة من المحظورات والمسموحات علي الإعلاميين أن يلتزموا بها وإلا تعرضوا لأشكال مختلفة من العقوبات "المنع من الكتابة، الإيقاف عن مزاولة المهنة والطرد من العمل، النقل إلي عمل آخر غير إعلامي، أو إلي عمل إعلامي اخر بغير إرادتهم، التعرض للإيذاء البدني كالسجن والاعتقال والتعذيب والاختطاف والقتل، التعرض لسلسلة من الضغوط الداخلية والخارجية لإجبارهم علي عمل ما لا يتفق من ضمائرهم أو حملهم علي تقديم رواية ما غير صحيحة محرفة، ضغوط اقتصادية..". وطيلة هذه السنوات كانت منهجية التعامل مع الصحفيين والإعلاميين تتأرجح بين الترهيب والترغيب، أو ما يرمز له بسياسة العصا "تهديد ووعيد وعقاب بأشكال مختلفة" والجزرة "إغراءات وامتيازات..". وإذا كان من الطبيعي أن يحدث رد فعل عكسي بعد كل هذه السنوات من التقييد القائم علي الكثير من الممنوعات وتجريم حتي ما لا تستوجب مصلحة المجتمع الحقيقية تجريمه رد فعل عكسي يتمثل في رفض أي شكل من أشكال الإلزام.. وصلت إلي مرحلة من الفوضي أحيانا.. ومحاولة لرفض أي تنظيم يسعي لتحقيق توازن مطلوب ومأمول بين الحقوق المختلفة.. حق الإعلامي في ممارسة عمله بحرية والتعبير عن رأيه بلا قيود وحق المواطن في احترام حقوقه الشخصية وعدم الاعتداء علي حرمة حياته الخاصة وعدم تعرضه لحملات تشويه وافتراء دون وجه حق وحق المجتمع في الحفاظ علي معاييره الثقافية والاجتماعية المقبولة من غالبية أفراده.. وازداد الموقف خطورة من التزايد المستمر في تأثير وسائل الإعلام في ظل ثورة الاتصال والطفرة في تكنولوجيا الإعلام والمعلومات.. حتي غدا الإعلام بوسائله التقليدية والجديدة شريكا رئيسيا وفاعلا أصليا في ترتيب أولوياته اهتماما، مؤثرا علي عملية إصدارنا للأحكام، وأصبح الجانب الأكبر من تصوراتنا عن العالم المحيط بنا من صنع الإعلام ووسائله التي زادت قدرتها في التأثير علي أفكارنا وآرائنا وقيمنا، في الوقت الذي تحول الإعلام والاتصال إلي صناعة ضخمة تحتاج لرؤوس أموال كبيرة وإلي تقنيات عالية في أغلب الأحيان، ومن ثم أصبح الاستثمار في هذه الصناعة وهو يمثل مخاطرة ومغامرة خاصة أن جانبا مما يصدر من صحف أو يقام من شبكات وقنوات قد يكون غير مدروس بالشكل الجيد خاصة من حيث جدواه الاقتصادية- أمرا غير يسير لمن يعقلون فعلا ويقدرون خطورة هذه الصناعة المختلفة عن غيرها من الصناعات، فهي صناعة واستثمار ذو رسالة اجتماعية- حتي ولو كان هدفها الترفيه والتسلية.. وكان لابد من وقفة ومراجعة لكثير من الممارسات الإعلامية لهذه الوسائل التي تصاعدت الشكاوي المجتمعية- وبالطبع شكاوي السلطات المختلفة- من بعض ممارساتها التي سادها أحيانا عدم الإحساس بالقدر الكافي بالمسئولية، وعدم الوعي بخطورة التأثير.. ومن المنطقي في عصر ارتفعت فيه حدة الرفض للاعتداء علي حقوق الإنسان ومنها حقوقه الإعلامية والاتصالية وزادت الحركات الاحتجاجية والمطالبة بمزيد من الحرية السياسية والاقتصادية ومن بينها الحق في التعبير والحق في الحصول علي المعلومات، والحق في المشاركة المجتمعية بجميع صورها، أن يكون مرفوضا أن نعود مرة أخري للأساليب القديمة للتحكم في وسائل الإعلام- كالرقابة أو الردع بجميع صوره- وفي الوقت نفسه فإن وقف حركة التطور الطبيعي للمجتمعات أمر يكاد ويكون مستحيلا- إن لم يكن مستحيلا فعلا. لهذا كله يظل الحديث عن ضرورة احترام هذه الوسائل خاصة الفضائيات للمعايير المهنية والأخلاقية المتعارف عليها في مختلف دول العالم- مع مراعاة الخصوصية الثقافية لمجتمعاتنا هو المطلب الأساسي والذي نعول عليه كثيرا، رغم كل المقاومة والرفض من جانب بعض القائمين علي إدارة هذه الفضائيات أو مالكها أو غيرهم من أصحاب المصالح الذين يستخدمون هذه الفضائيات لتحقيق مصالحهم المختلفة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية. ومع عام جديد نتوسم فيه الخير، ونأمل أن يكون أفضل من أعوام سبقته، فإننا نتطلع إلي مناشدة هذه القنوات الفضائية بوقفة صادقة مع النفس للمراجعة، ليس فقط من باب الحرص علي المصلحة العامة، ولكن أيضا من باب الحفاظ علي هذه القنوات ذاتها، فاستمرارها بهذا الوضع الذي يحقق لبعضها بعض النجاح المادي والمعنوي مسألة وقتية.. وهذه الممارسات- مهما طال الزمن- ستقود إلي الفشل حتما. وإذا كانت المجاملات الرسمية- علي المستويين القطري والقومي- قد قوبلت بالرفض- وفي كثير من الأحيان كان رفضا لا يستند علي معرفة أو مراجعة لما طرح من أفكار ومحاولة جادة لتطويرها- فإننا ندعو إلي بعض الرؤي التي تعتمد علي مبادرات جادة من القائمين علي أمر هذه القنوات أنفسهم وأيضا مبادرات حقيقية وواعية من المجتمع والجمهور أصحاب المصلحة الحقيقية من استمرار الإعلام الحر والمسئول. وأطرح هنا بعض الأفكار منها : - أن تبادر كل فضائية عربية بصياغة مدونة سلوك أو ميثاق شرف للقناة يحدد المعايير المهنية والأخلاقية التي يتفق العاملون بهذه القناة أو تلك علي احترامها والالتزام بها طواعية. - صياغة أدلة أسلوب عمل STYLE BOOK للعاملين بالإعلام التليفزيوني والفضائي يتضمن الآداب التي من المهم احترامها مثل أسلوب الخطاب الإعلامي الموجة لملايين البشر من حيث اللغة المستخدمة، إدارة الحوار وأسلوبه، كيفية التعامل مع الضيوف، كيفية التعامل مع الجمهور الذي يتفاعل مع هذه الشبكات الإذاعية والتليفزيونية، حقوق الجمهور. - مطلوب تنفيذ برامج للتدريب المستمر لمن ينضمون للعمل بهذه الشبكات والقنوات خاصة من الشخصيات التي حققت جماهيرية عالية في مجالات عمل أخري غير الإعلام "رياضة- فن- طب.." وتسعي الشبكات والقنوات لاستقطابها والاستفادة من شعبيتها لكنها لا تملك مقومات العمل الإعلامي ومتطلباته. - دعوة جماعات من المواطنين والشخصيات العامة المهمومة بتأثيرات الإعلام خاصة التليفزيوني والفضائي لتكوين جمعيات أهلية للدفاع عن حقوق جمهور وسائل الإعلام تعمل كمرصد مجتمعي لممارسات الشبكات والقنوات المختلفة، وتستخدم وسائل الضغط المعنوي لدفع هذه الوسائل الإعلامية لاحترام التقاليد المهنية ومراعاة المعايير الثقافية السائدة والمقبولة في المجتمع. - أن تتضمن عقود الترخيص للقنوات الفضائية بندا خاصا يلزمها بالمعايير المهنية والأخلاقية "تحدد كملحق ضمن بنود العقد" ويراعي عند تجديد الترخيص مدي الالتزام باحترام هذه المعايير من جانب لجنة أو هيئة مستقلة تقوم بذلك. - مطلوب توعية الجمهور خاصة النشء والشباب من خلال برامج التربية الإعلامية- التي أدعو لتعميمها في مدارسنا وجامعاتنا- بالتعرض الانتقائي والنقدي لمضامين وسائل الإعلام، بحيث لا يتلقي الجمهور ما تقدمه هذه الوسائل كأمور مسلمة بها، بل يعمل عقله وتفكيره النقدي ويتدرب علي كيفية الاختيار والتمييز بين الغث والسمين من هذه المضامين، وتتكون لديه القدرة علي الحكم السليم، ويصبح هو بالفعل صاحب القرار الأول في استمرار هذه القنوات أو البرامج أو توقفها. هذه الأفكار وأعتقد أن هناك كثيرا من الرؤي يمكن مناقشتها ودراستها، وأتصور أن ملاك وأصحاب القنوات الفضائية الخاصة أيضا لديهم مبادرات، نرحب بها كمجتمع.. ونأمل أن تستمر، ولا تكون مجرد رد فعل لأزمة معينة أو غير ذلك.. ولكن غير الممكن أن يستمر الوضع علي ما هو علي الآن فقد فاض بنا الكيل!