إذا كنت قد أنهيت قراءتي وتحليلي المطول للحوارات التي أدلي بها كل من السيدين عمرو موسي ومحمد البرادعي وطال التحليل.. لأنني راعيت فيه مناقشة جوانب عديدة من حيث الشكل والمضمون فإن المناقشات والتعليقات التي تلقيتها أثناء وبعد نشر المقالات علي مدي أسبوع.. توجب تسجيل عدد من الملاحظات: 1 فرضت علي نفسي في هذا (التحليل المطول) قدراً هائلاً من ضوابط الدقة والتوثيق والموضوعية، وراعيت الالتزام بلغة الحوار الرصين.. والانتقاد المبني علي حقائق لا يمكن نكرانها.. واستناداً إلي مضمون ما قال السيدان موسي والبرادعي.. حرصاً علي ألا يصنف هذا العمل الصحفي علي أنه نوع من تشويه الصورة.. وحملات الهجوم المدفوعة.. كما يتردد غالباً. إنني، رغم انتقادي الشديد للحالة التي بدا عليها كلاهما، إطاراً ومضموناً، أعرب عن تقديري الشخصي لقيمة كل من موسي والبرادعي، وأثني علي تاريخيهما الممتد، وتجربتيهما العريضة والثرية.. لكن (التقدير الشخصي) ليس هو الذي يقود إلي (التقدير السياسي) بكل معاييره.. خاصة أن كليهما قد طرح نفسه علي الرأي العام.. وقدم ذاته باعتباره مرشحاً بديلاً لرئاسة البلد.. أما وأن الأمر هكذا.. فلابد من مناقشة جدية وجادة لكل ما يطرحان.. إذ لا يوجد في السياسة مقدس.. ولا يمكن اعتبار شخص ما ممنوعاً من اللمس. لقد كنت أتحفظ في البداية علي تناول أمور من تطرح أسماؤهم علي أنهم قد يكونون مرشحين للرئاسة.. انتظاراً لمواعيد دستورية محددة ومعروفة.. ولأن يعلن أي مرشح هذا بوضوح.. وقلت ذات مرة: إن علينا أن نؤجل مناقشة ما يقول البرادعي إلي أن يتحصل علي المقومات الدستورية اللازمة للترشيح.. لكن كليهما تجاوز هذا الأمر من جانبه وأعلن نفسه مرشحاً.. تصريحاً أو تلميحاً.. ومن ثم وجبت المناقشة وحان وقتها. 2 ينتمي كلا السيدين عمرو موسي ومحمد البرادعي إلي مدرسة في الدبلوماسية المصرية عنوانها أستاذهما الراحل الوزير إسماعيل فهمي.. الذي عارض الرئيس السادات علناً.. واستقال اعتراضاً.. وهو ما صنع شرخاً هائلا في علاقة المؤسسة الدبلوماسية بمؤسسة الرئاسة طيلة عقد كامل علي الأقل بدأ في عام 1977.. وربما زاد الوقت علي ذلك. ويحسب لموسي نفسه أنه قد ساهم لجهده واجتهاده وشخصيته علي نرجسيتها في درء الشرخ حين كان وزيراً للخارجية. وكون المرشحين المعلنين لانتخابات الرئاسة من هذا الجناح في المؤسسة الدبلوماسية المصرية.. لا ينفي كونها إحدي أهم المؤسسات المصرية العريقة وذات القيم.. والقادرة علي تقديم كمية هائلة من الخبرات التي لم يعرف عنها من قبل تحدي نظام الحكم وإنما التزامها بقيمه وقواعده.. وتمسكها بمعادلات التفاعل الدقيق مع الدولة وفي سياقها.. وعلي أساس منهجها.. فهي منها لا عليها. 3 لم أكن وحدي الذي انتقدت السيدين عمرو موسي ومحمد البرادعي، وهو عمل موضوعي ليس علي أن أبرره بل أجده واجباً، وكان من بين منتقديهم بعض المعارضين الذين رأوا فيما فعل موسي والبرادعي نوعاً من القفز بالمظلات علي جهد تقوم به المعارضة.. كما لو أنه جهد يستحق الصراع عليه (!).. وقد قال أكثر من صوت في هذه المعارضة إنهم قالوا منذ سنوات ما يردد موسي والبرادعي.. ما يعني أنهما لم يأتيا بجديد. الجديد الحقيقي هنا هو (الصيت الشخصي) لكليهما.. فالمعارضة تفتقد للأسماء اللامعة.. أو التي تحظي بمصداقية جماهيرية.. فضلاً عن افتقادها للجماهيرية ذاتها.. إذ إن خطابها منعزل ومعزول.. ومطالبها مجردة من الاهتمام العام.. وهي تفتقد إلي الطاقة الطبقية، أو الفئوية، أو القدرة المصلحية، التي يمكن أن تدفع بها لكي تكون ملموسة ومعبرة عن خطاب مجتمعي حقيقي. وإذا كان بعض المعارضين قد رأي فيما قال موسي والبرادعي إنه (دفع إضافي) في اتجاه المطالبة بتعديل جديد للدستور أو إعادة بنائه بالكامل.. ليس أكثر من قوة دافعة.. فإن ما أثاره هذا الجدل أظهر مجدداً افتقاد المعارضة إلي شخصيات قيادية حقيقية.. وإلي أنها تدرك أن ما تطالب به ليس سوي (حديث نخبوي) يفتقد الجاذبية.. وليس له ما يبرره في جوهر مصالح الناس. لقد تحدث الكثيرون عن اسم مثل موسي.. وهبط موسي بمظلته.. واسم مثل البرادعي.. وقفز الأخير بمظلة ثانية من فيينا.. وقد تبين أنهما غير قادرين علي مواجهة أبسط قدر من الجدل الذي يفرضه الحراك الساخن في مصر.. بل تأفف أحدهما من انتقاده.. وتعالي آخر عن أن يخوض غمار نقاش حقيقي.. وبالموازاة لهما فإن الاسم الثالث المطروح وهو العالم الكبير أحمد زويل.. يبدو بدوره غير ممكن له أن يتأهل لتفاعل حقيقي مع المناخ السياسي.. ناهيك عن كونه لا يمتلك أياً من المقومات الدستورية اللازمة للترشيح في انتخابات الرئاسة. 4 ومن ثم فإن المعضلة الأساسية في هذا الجدل.. هي: من هو المرشح المعارض في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ وهو سؤال يطرح نفسه بغض النظر عمن سوف يكون مرشح الحزب الوطني صاحب الأغلبية.. سؤال يعبر عن الرغبة الحقيقية في انتخابات تنافسية تليق بمصر وواقعها المتنوع.. وتلبي احتياج قطاع من المجتمع إلي أن يعبر عن نفسه حتي لو لم يصل مرشحه للحكم عن طريق الانتخابات.. إذ ليس بمقدور أحد أن يتجاهل أن هناك أصواتاً مهما قلَّت ولم تكن ملموسة لا تريد أن تصوت لمرشح من الحزب الوطني. وتدرك المعارضة هذه المعضلة.. فهي لم تطرح بدائل.. أو حتي بديلاً.. وقد كان ما فعله كل من موسي والبرادعي مفيداً للغاية لأنه كشف هشاشة تلك الترشيحات في وقت مبكر.. وأظهر للجمهور أنه (لا يوجد تحت القبة شيخ).. وكما أنها تدرك هذا أي المعارضة فإنها تهرب من المعضلة.. بأن تدعي أن المشكلة تكمن في شروط المادة 76 من الدستور التي تحجب أي مرشح مستقل عن أن يتقدم إلي الانتخابات. والركون إلي موضوع المادة 76 يمثل فراراً من السؤال الأصعب.. فهي المادة إن كانت تشترط مقومات دستورية للمرشح.. بحيث تضمن الحد الأدني من الجدية وتحافظ علي مستقبل البلد من احتمال أن يجد المغامرون الطريق مفتوحاً إلي سدة الحكم.. فإن الأهم من (المقومات الدستورية) هو (المقومات السياسية) للمرشح.. مؤهلاته.. وقدرته.. وخبرته.. وجاذبيته.. والأخطر: برنامجه.. ولياقته بموقع رئيس مصر.. حتي لو كان مجرد مرشح لن يفوز. هذه مسئولية لا يتحملها نظام الحكم.. ولا يقع عبؤها علي الحزب الوطني.. وأي كلام عن القيود والضغوط التي يقال إنها تعرقل الحياة السياسية لن يكون له محل من الإعراب.. الكل يفعل ما يريد في إطار الحراك.. عشرات من الحركات الاحتجاجية.. التي انكشف أنها ورقية.. عمليات متواصلة من الهجوم علي قيادات الحكم وحزب الأغلبية.. وصلت حد التشويه العائلي.. لم تحرز نتيجة حقيقية في إفقاد هؤلاء مصداقيتهم ومكانتهم بين الجمهور.. مئات من المظاهرات المتوالية يومياً.. ندوات متكررة.. ومقالات.. ومؤتمرات.. وبرامج علي الفضائيات.. واعتصامات.. وبيانات.. وأنشطة مدنية وحقوقية.. كل هذا لم يفلح في أن يكشف عن قيادة للمعارضة.. أو مرشح يعبر عنها في الانتخابات المقبلة. أين تكمن إذن المشكلة.. أهي في المادة 76 .. وشروطها.. أم في أن المعارضة لا تمارس حقاً السياسة.. وتخلص في الهجوم والتشويه الذي يصل حد التآمر أحياناً.. بدلا من أن تجتهد في أن تقدم مرشحاً بديلاً وبرنامجاً مقنعاً؟! أقول هذا وأنا أعلم أن أحد المثيرين للجدل، ممن لا يملك لا المقومات السياسية ولا المقومات الدستورية ويتمتع بذاتية مفرطة، يقوم الآن بإعداد دراسة قانونية دستورية لكل ما تتضمنه المادة 76 لعله يجد ثغرة ما يمكن أن تقوده إلي الترشيح.. وحين ينتهي من دراسته سيكون هناك حديث جديد. [email protected] www.abkamal.net