أخيرا وبعد تفكير طويل واستشارات استغرقت أسابيع عدة، رضخ الرئيس باراك أوباما، ولو جزئيا، لرغبات المؤسسة العسكرية وقرر ارسال ثلاثين ألف جندي اضافي إلي أفغانستان. لم تمض ايام علي اعلان أوباما قراره بتعزيز الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان، حتي جاء الهجوم الذي شنه أربعة انتحاريين علي مسجد في مدينة روالبندي الباكستانية. كان الرد الطالباني في باكستان بدل أن يكون في أفغانستان. جاء الهجوم الذي حصل يوم الجمعة الماضي وأدي إلي سقوط نحو خمسة وثلاثين قتيلا بينهم عدد من كبار الضباط الباكستانيين، وكأنه تذكير للرئيس الأمريكي بأنه ليس في الإمكان الفصل بين باكستانوأفغانستان وأن أساس المشكلة في باكستان نفسها نظرًا لأنها تحولت إلي ما يشبه مصنعًا ينتج "طلابا" أقرب إلي قنابل موقوتة من أي شيء آخر. هذا المصنع اسمه المدارس الدينية التي عددها بالآلاف. انتشرت المدارس في عهد الرئيس الراحل الجنرال ضياء الحق. عمل ضياء الحق منذ استيلائه علي السلطة في أواخر السبعينيات، عن طريق انقلاب عسكري بدعم أمريكي وغير أمريكي، علي نشر التطرف في المجتمع الباكستاني. اصرَ، بعدما قوي عود نظامه، علي اعدام ذو الفقار علي بوتو الذي كان رجلا عصريا، عمل من موقعه كرئيس للوزراء علي تحقيق إصلاحات حقيقية لمصلحة الطبقة الفقيرة بغية ابعادها عن التطرف، خصوصا التطرف الديني. لا يمكن عمل شيء بالنسبة إلي الوضع في أفغانستان من دون التصدي للوضع الباكستاني بشكل جدي أوّلا. لقد اعلنت "طالبان" مسئوليتها عن الهجوم علي المسجد القريب من مقر القيادة العسكرية ومن منازل ومقرات تابعة لضباط كبار في الاستخبارات والأمن في روالبندي. يدل ذلك علي أن المؤسسات الرسمية الباكستانية مخترقة من "طالبان" وأن الحركة تمتلك مؤيدين لها داخل المؤسسة العسكرية الباكستانية يسهلون لانتحارييها الاقتراب من المواقع الحساسة المطلوب تفجيرها. لم يعد السؤال هل في الإمكان معالجة الوضع الأفغاني من دون الذهاب إلي جذور المشكلة، أي إلي باكستان نفسها. بات السؤال هل تعي الإدارة الأمريكية أن كل الجهود التي تبذلها مع المتضامنين معها، علي رأس هؤلاء الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، ستبقي من دون جدوي في غياب استراتيجية واضحة تركز علي باكستان قبل أفغانستان... قبل عامين تقريبا، نشرت مجلة "تايم" الأمريكية موضوعا افردت له غلافها. فحوي ما ورد في المقال الطويل أن البلد الذي يشكل الخطورة الأكبر في العالم هو باكستان وليس العراق. عددت الأسباب التي تجعل باكستان اخطر بكثير من أفغانستان. وركزت في الوقت ذاته علي الأضرار التي خلفتها المدارس الدينية التي كانت في أساس نشوء"طالبان". أن طلاب هذه المدارس هم الذين كانوا يتوجهون إلي أفغانستان بعد تدريبهم علي السلاح. وكان هؤلاء وراء تمكين "طالبان" من السيطرة علي أفغانستان بعد الأنسحاب السوفيتي منها وبعد انتشار الفوضي في كل مكان بسبب الخلافات التي نشأت بين زعماء "المجاهدين". لم تكن الولاياتالمتحدة نفسها بعيدة عن نشوء "طالبان" وانتشار نفوذها بدعم واضح ومكشوف من جهاز الاستخبارات العسكرية الباكستاني في مرحلة كانت الأولوية فيها إلي استخدام الأراضي الأفغانية لتمرير انابيب النفط المستخرج من الجمهوريات الإسلامية التي كانت فيما مضي جزءا من الاتحاد السوفيتي. غض الأمريكيون الطرف علي كل ما كانت "طالبان" ترتكبه في أفغانستان. لم يكن هناك كلام عن الديمقراطية ولا عن حقوق الإنسان ولا عن تعليم المرأة ولا عن اضطهاد الأقليات، خصوصا الأقلية الشيعية، التي عانت الأمرين من التزمت الطالباني. في المستقبل القريب، سيصل ثلاثون ألف جندي أمريكي إضافي إلي أفغانستان. كذلك، سيصل نحو سبعة آلاف جندي من الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي. ربما تكون السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية علي حق عندما اعتبرت لدي اجتماعها بوزراء الدفاع في دول الأطلسي قبل أيام في بروكسيل ان"الأنتصار علي التمرد الذي تقوده طالبان في أفغانستان امتحان حاسم للحلف". نعم انه امتحان حاسم للحلف. أكثر من ذلك، يتوقف مستقبل الحلف ودوره علي النجاح في أفغانستان. ولكن، مرة أخري، لا مفر من الذهاب إلي النبع بدل التلهي بالسواقي. أن النبع الذي تتغذي منه "طالبان" هو باكستان. باكستان هي الحديقة الخلفية لأفغانستان. كيف السبيل إلي معالجة الوضع الباكستاني وتجفيف النبع الذي يخرج منه طالبانيون بالآلاف المؤلفة؟ إلي الآن، ليس ما يشير إلي اقتناع الإدارة الأمريكية بمدي الإختراق الطالباني للمجتمع الباكستاني علي غرار ما حصل في أفغانستان بالإستناد خصوصا إلي العامل القبلي. فقبائل البشتون المنتشرة في باكستانوأفغانستان والتي يجمع الانتماء إليها بين عناصر "طالبان" لا تعترف بالحدود بين باكستانوأفغانستان. ولذلك، تستطيع هذه القبائل تأمين الحماية لأسامة بن لادن و"القاعدة" في الأراضي الأفغانية أو الباكستانية لا فارق. هل لا يزال في الإمكان معالجة الوضع الباكستاني؟ ذلك هو السؤال الكبير. إذا لم يعالج هذا الوضع لا فائدة من مليون جندي أمريكي إضافي في أفغانستان. ثمة حاجة إلي تغيير جذري في توجه السياسة الباكستانية والتفكير الذي في أساس هذا التوجه. بكلام أوضح، ثمة حاجة إلي التوقف عن اعتبار الهند العدو الأول وأنه لا بدّ من حشد معظم فرق الجيش الباكستاني علي حدودها. العدو الأول لباكستان هو المد الطالباني علي كل المستويات افقيا وعموديا. هل لا يزال في الإمكان وقف المد؟ إذا لم تتمكن الإدارة الأمريكية من الذهاب إلي النبع، أي إلي المصنع الباكستاني الذي ينتج انتحاريين ويصدرهم إلي باكستان نفسها وإلي أفغانستان، ليس مستبعدا أن يصدق الذين يحذرون من أن أفغانستان ستكون فيتنام أخري للولايات المتحدة!