من يزور سلطنة عُمان هذه الأيام، في هذا الزمن العربي الرديء، يكتشف بلدا عربيا تستأهل تجربته التوقف عندها، وذلك بعد تسعة وثلاثين عاما من وصول السلطان قابوس إلي السلطة. تبدو هذه الفترة قصيرة في عمر الشعوب. ولكن بالنسبة إلي عُمان التي كانت قبل ذلك مجرد دولة متخلفة، تبدو النهضة التي شهدتها في أقلّ من أربعة عقود اقرب إلي معجزة من أي شيء آخر. قبل كل شيء، هناك بلد عربي ينتمي إلي مجلس التعاون الخليجي يتميز بأن المواطن فيه يعمل بشكل طبيعي. هناك ساعات عمل محددة يحترمها المواطن الذي يجد في السلطان قدوة في هذا المجال. يعمل هذا المواطن في كل الوظائف، بما في ذلك المتواضع منها. وهذا يشير إلي القدرة علي نشر ثقافة مختلفة وترسيخها. تقوم هذه الثقافة علي فكرة ممارسة العمل والمواظبة عليه في سبيل كسب لقمة العيش. إن مجرد وجود مواطن يعمل بانتظام من دون تذمر، دليل علي وجود ثقافة جديدة تقوم علي فكرة الاستثمار في الإنسان. إنه استثمار في الرجل والمرأة في آن بعيدا عن أي نوع من العقد. من هنا، ليس صدفة ان الخطاب الذي ألقاه السلطان قابوس في افتتاح الانعقاد السنوي لمجلس عُمان (يضم مجلس الدولة المنتخب ومجلس الشوري المعين) يوم السادس عشر من نوفمبر الجاري ركز بشكل اساسي علي دور المرأة. كذلك ركز علي التنمية والاستثمار وكيفية تشجيع المستثمرين في السلطنة. هناك بكل بساطة محاولة لجعل المجتمع بكل مكوناته مجتمعا منتجا يعتاش من العمل بدل ان يكون مجتمعا ذا اقتصاد ريعي يشكل عالة علي الدولة ومؤسساتها. هكذا تكون المجتمعات العصرية أو لا تكون. تكون مجتمعات منتجة بدل اعتماد المواطن علي ما تقدمه له الدولة. حتي الدول القادرة علي تقديم كل الخدمات إلي مواطنيها بفضل ما تمتلكه من ثروات، ستجد نفسها يوما في موقع الدولة العاجزة في حال لم يكن المواطن فيها يعمل وينتج ... في النهاية، يظل الإنسان في اساس أي ثروة. والإنسان المنتج يعني أولا البرامج التعليمية المتطورة التي باتت تربط العماني بكل ما هو حضاري في هذا العالم بعيدا عن أي نوع من التقوقع والعقد، خصوصا في مجال تعليم المرأة والمساواة الحقيقية بينها وبين الرجل. لا يكمن سر نجاح التجربة العمانية، المبنية علي فكرة بناء المؤسسات التي ترتكز عليها أي دولة حديثة في جعل المواطن يعمل فحسب، بل هناك أيضا تركيز واضح علي تأمين المساواة بين المواطنين في ظل الأمن والاستقرار. تنطلق هذه الفكرة من تفعيل القدرة التي تمتلكها الدولة علي استيعاب الجميع من دون تمييز بين المناطق والمذاهب. الكفاءة هي الأهم. ولذلك، يشعر المواطن في السلطنة بأن عليه ان يعمل كي يتقدم ويتطور ويحسن وضعه الاجتماعي تماما كما الحال في أي دولة اوروبية أو اسيوية تحترم نفسها. تبدو عُمان في الطريق الصحيح، طريق تحويل نفسها إلي دولة مختلفة وناجحة في منطقة مضطربة لألف سبب وسبب. انها واحة امان واستقرار منذ فترة طويلة. بدأت رحلة الألف ميل بوصول السلطان قابوس إلي السلطة وبدأ التركيز علي الشأن الداخلي في عملية تصب أولا وأخيرا في جعل المواطن يشعر بأنه جزء لا يتجزأ من مشروع بناء وطن لا يسوده الأمن والاستقرار فقط، بل يسوده التسامح فوق أي شيء آخر. بعد النجاح في بسط نفوذ الدولة وسلطتها علي كل الأراضي العمانية مطلع السبعينيات من القرن الماضي، بدأت الرحلة الطويلة المستمرة في اتجاه قيام الدولة الحديثة. الدولة الحديثة هي الدولة التي تعرف أهمية موقعها الاستراتيجي من جهة، لكنها تعرف حدود امكاناتها من جهة أخري. المعادلة صعبة. النجاح في ترويض هذه المعادلة يقود إلي الأمن والاستقرار والازدهار. ربما تكمن عبقرية السلطان قابوس في انه عرف دائما كيف يروض هذه المعادلة ويستخدمها لمصلحة عُمان. فعل ذلك حتي عندما كان العرب الآخرون يلهثون خلف الشعارات والمزايدات غير مدركين أهمية الأحداث التي تشهدها المنطقة. في النهاية، كان السلطان قابوس من القلائل الذين رفضوا مقاطعة مصر بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل في العام 1979 وكان من القلائل الذين تصرفوا بحكمة إبان الحرب العراقية- الإيرانية بين العامين 1980 و1988 كانت له دائما حساباته المبنية علي اقامة أفضل العلاقات مع جيران عُمان من منطلق ان الدول لا تختار جيرانها. علي الدول التي تمتلك قيادات واعية التعاطي مع جيرانها والسعي إلي اقامة افضل العلاقات معهم وهذا ما اتقنه السلطان قابوس بطريقة جعلته رئيس دولة فريدا من نوعه، أقله بسبب قدرته علي استشفاف المستقبل والتعاطي مع التوازنات الإقليمية والدولية والمصالح المتضاربة في منطقة الخليج. كان يمكن القول إن النجاح الاقتصادي وفي مجالي الأمن والاستقرار وفي مجال الاستثمار في المواطن يختصر التجربة العمانية لولا البعد الإنساني الخاص بتلك التجربة. هذا البعد قائم علي ان السلطان من القلائل الذين يهتمون بأدق التفاصيل المتعلقة بتهذيب الإنسان وتعويده علي الموسيقي الكلاسيكية والبناء الجميل والاهتمام بالبيئة مثلما يهتم بالأرض والزراعة والبرامج التعليمية والثورة التكنولوجية. هذا البعد الإنساني الذي يستند إلي العلاقة المباشرة بين السلطان والمواطن في كل منطقة من المناطق يساعد إلي حد كبير في تحسين عامل الذوق لدي الإنسان العماني. يظل هذا الإنسان في نهاية المطاف الثروة التي لا تنضب والمخزون الاستراتيجي لبلد شاسع يحتل موقعا استراتيجيا فريدا من نوعه عرف زعيمه كيف يقود الشارع وكيف يطوعه بدل ان ينقاد له.