الشائع أنه علي الطبيب النفسي أن يستمع إلي مريضه بآذان صاغية ولكن باردة.بمعني أنه لا يجب أن يتأثر بآلام المريض إلي الدرجة التي تجعله هو عرضة للعدوي والإصابة بنفس المرض، عليه أن يستمع لصيحات الألم بغير أن يتألم، أن يستمع إلي صيحات الضياع بغير أن يضيع هو، ولكن هل ذلك أمر واقعي؟ بمعني: هل يمكن تنفيذه؟ هل تستطيع أن تمشي في الأمطار بغير أن تبتل، هل يمكن أن تحاط بالأحزان بغير أن يتسلل الحزن إلي قلبك؟ ولنفرض جدلا أنك محصن ضد كل ذلك، وهو ما أراه أمرا مستحيلا، ألا يكسبك ذلك قدرا من البلادة تحرمك من الإحساس بالمسئولية الطبيعية عن مريضك؟ الواقع أنه لا أحد محصن ضد التعاسة عندما تتعدد مصادرها حوله، وهذا الذي يزعم أنه مازال يحتفظ بفرحته الطبيعية الداخلية بينما هو يسبح في نهر الأحزان فلا شك أنه يخدع نفسه، لا توجد كمامة تضعها علي حواسك لتمنع فيروس التعاسة من الوصول إلي أعماقك. رائد في الجيش الأمريكي، طبيب نفسي معالج، لسنوات طويلة في عيادته العسكرية أستطيع أن أراه وهو يستمع إلي مرضاه من الجنود والضباط، كان ذلك قبل حرب أفغانستان والعراق، كانت مهمته سهلة، كان يستمع إلي قصص فشل مرضاه في الحب أو إلي كراهيتهم لأهلهم أو خوفهم من الدنيا بغير سبب واضح، أو أن ضابط الفصيلة يذكّر أحدهم بزوج أمه الذي يكرهه. وطوال هذه الأعوام قبل الحرب كان قادرا علي ممارسة عمله بلطف وفي غير عناء، مستعينا بالكلمات الودودة والأدوية الحديثة. أما بعد الحرب فقد بدأت مرحلة جديدة في حياته، بدأ يري أرواحا ضائعة ونفوسا مشوهة ويستمع إلي قصص مرعبة.. إنها الحرب. هو ليس طبيبا في عيادة في نص البلد بعيدا عن جبهة القتال، بل هو ضابط زميل لهذا المريض، هو زميل في معسكره، لابد أن يتسلل سؤال إلي نفسه: يا إلهي.. هل يمكن أن يحدث لي ذلك..؟ هل يمكن أن تصدر لي الأوامر أن أنتقل إلي هناك لكي أقابل هذه الأهوال وأعيش هذه الظروف التي أسمع عنها؟ أنا عاجز عن تحمل ذلك. في تلك اللحظة التي هاجمه فيها ذلك الهاجس، يكون هذا الضابط المسلم الأمريكي من أصل فلسطيني واسمه نضال، قد قطع الخطوة الأولي في طريق المرض النفسي أو العقلي الذي تحول في النهاية إلي لوثة عقلية كان من نتيجتها أن فتح مدفعه الرشاش علي زملائه فقتل من قتل وأصاب من أصاب، إلي أن استطاعت جندية أن تطلق عليه النار فتصيبه وينتقل إلي المستشفي، لقد تحققت رغبته في عدم الذهاب إلي الجبهة ولكن ياله من ثمن دفعه هو وضحاياه وكل المسلمين علي وجه الأرض. صفحة الحوادث امتلأت هذه الأيام بأصحاب هذا النوع من اللوثات العقلية، ولعل أخفها كان ذلك الصائغ الذي ألقي بزوجته وبناته الثلاث من النافذة في الدور الرابع، وذلك لخسارته الكبيرة في البورصة، ومن قبل قرأنا عن شخص ذبح أولاده وزوجته بأعصاب باردة خوفا عليهم من الفقر بعد أن خسر ثروته هو الآخر في ظروف غامضة، وعادة نشعر بالصدمة والحزن والأسف، ثم ننسي، فالحياة لا تتوقف من أجل أحد قاتلا كان أو مقتولا.. يحدث هذا في كل مكان علي وجه الأرض، بالتأكيد مازلنا نذكر ذلك الطالب الذي أخذ يتسلي بقتل زملائه في المدرسة بمدفع رشاش في أمريكا. أما هذه المرة فقد تصادف أن هذا الضابط الأمريكي مسلم الديانة.. كل تفاصيل هذا الحادث ستشحب وتتلاشي من عقول كل الناس ويتبقي في وعيهم شيء واحد هو أنه مسلم. ولما كان العقل الجمعي بطبيعته يميل إلي التعميم، لذلك سيكون تشخيص الدافع إلي هذه الجريمة جاهزا، لن يتنبه أحد إلي أن هذا النوع من اللوثات العقلية يصيب كل الناس من كل الأديان والأعراق، بل سيذكرون شيئا واحدا هو أنه مسلم في عملية إحياء لذكري11 سبتمبر، هكذا تزداد دعوات العنصريين قوة، من أن كل مسلم هو قنبلة موقوتة ستنفجر في وقت ما، وسيكون رد الفعل بالطبع هو أن ينشغل كل مسلم في أمريكا والغرب عموما بأن يثبت لمن حوله أنه شخص طبيعي لن ينفجر يوما ما.. يا للكارثة التي لم نكن في حاجة إليها، وياله من دور للفرد في صنع الكوارث في تاريخ الأمم. منذ أكثر من نصف قرن، كنت مجندا في سلاح الإشارة، وفي أساس الإشارة، قال لنا الشاويش جملة كانت جديدة علي في ذلك الوقت وكنت رافضا لها، قال: في الجيش الخير يخص، والشر يعم، الشيء الجيد يكافأ عليه صاحبه، أما الشر فتعاقب عليه الفصيلة كلها. كثيرا ما عوقبنا جميعا لخطأ ارتكبه واحد منا فقط، وكنت أظن أن هذه القاعدة خاصة بالحياة العسكرية فقط، أما الآن فأستطيع أن أقول إنها قاعدة بشرية عامة، سيخطئ شخص ما، سيرتكب جريمة فظيعة بالفعل، غير أنه سيعرض أمة بأكملها للمتاعب.. هذا هو الثمن الذي سندفعه جميعا.