يرفض العقل العربي إلا أن يتماهي، ولو بجزء معقول، مع الإرث البعثي حتي ولو لم يكن ينتمي إليه. فهذا الإرث نما بين مشاعر الإحباط واليأس والهزائم ودغدغ آمال الملايين بعودة منصورة إلي أمجاد ضائعة. يحن العقل العربي إلي ذلك الإرث ولو كانت تجربة البعث العملية تعني حرفيا عكس الشعارات التي رفعتها الأنظمة التي حكمت باسمه. فلا حرية ولا اشتراكية ولا وحدة. بل أكثر من ذلك، تتقلص الأمة إلي الدولة وتتقلص الدولة إلي الحزب ويتقلص الحزب إلي الطائفة وتتقلص الطائفة إلي مسقط الرأس ويتقلص مسقط الرأس إلي العائلة وتتقلص العائلة إلي الفرع الذي ينتمي إليه القائد... ومع ذلك يشتاق بعض العرب إلي "الهيبة" حتي ولو تمثلت في مهادنة "العدو" وسحق أولاد البلد أو سحل معارضين أو ممارسة كل صنوف الإبادة والقمع والوحشية. اليوم يتسابق محامو الرئيس العراقي السابق صدام حسين وغيرهم علي نشر مذكراته أو قصة حياته، ورغم التباين في العرض إلا أن نقاط التقاء كثيرة ترسم للعقل العربي خريطة طريق للعبور إلي الديكتاتورية علي جسر معبد بالمشاعر الوطنية وحب العراق والدفاع عن الوطن. ينقل المحقق الأمريكي جورج بيرو في كتاب رونالد كيسلر عن صدام (the terrorist watch) قوله: إن الرئيس العراقي لم يكن يملك أسلحة دمار شامل لكنه ادعي ذلك كي يخيف إيران فلا تفكر في أنه ضعيف، وأنه نادم وكان يفضل لو تعاون مع الأممالمتحدة لنزع الذرائع الأمريكية. الرجل لا يغامر بمبلغ من المال ولا يجري اختبارات علمية علي فئران ولا يناور في صفقة سلاح. هو يقامر ببلد وإمكانات وشعب وثروات ومقدرات وسيادة... خسر فيما فعل وخسر العراق، أو لنضعها في السياق العكسي ل"سلم المجد": خسر صدام فخسر فرع العائلة فخسر مسقط رأسه فخسرت الطائفة فخسر البعث فخسر العراق فخسرت "الأمة". يمكنك أن تصدق بكل بساطة أن حاكمًا كصدام يمكن أن يقول ذلك، فهو قال سابقا إن كل ما يكتبه أو تخطه أنامله يصبح قانونا للعراق، وإن العراقي يضع صوره في المنازل والساحات ودفاتر الأطفال لأنه يعلم أن رغيف الخبز الذي يأكله نصفه من صدام، وإن ما كان للعراقي أن يملك بيتًا أو يدخل مدرسة أو يمارس عملاً لولا صمود صدام ورؤية صدام وقوة صدام... كل سييء جيد للعراق منه أما كل شيء سيء فهو من خيانات الشعب أو من مؤامرة خارجية. زاد في ذلك ان اعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا بفضل الخوف والولاء والمصالح يمجدون صدام علنًا ويعطونه أوصافًا تقترب من الشرك أحيانًا. في كتاب خليل الدليمي "صدام حسين من الزنزانة الأمريكية: هذا ما حدث" ينقل الراوي أن الرئيس السابق قال له: إن الأمريكيين قبضوا عليه من دون مقاومة "بل لم أضع في حسابي مقاومتهم لأن السبب هو أنني قائد، ومن جاءوا كانوا جنودًا وليس من المعقول أن أشتبك معهم، وأقتل واحدًا منهم أو أكثر وبعدها يقومون بقتلي، فهذا تخل عن القيادة والشعب، لكن لو كان بوش معهم لقاتلته حتي أنتصر عليه أو أموت". لم يتعاون مع الأممالمتحدة من أجل الشعب العراقي. لم يتلاف الحرب من أجل الشعب العراقي. لم يبق في بغداد من أجل الشعب العراقي. اختبأ في حفرة من أجل الشعب العراقي. استسلم ولم يقاتل دفاعًا عن نفسه من أجل الشعب العراقي. تقول رغد صدام حسين في مقابلتها الشهيرة مع "العربية" بعد انهيار النظام العراقي السابق: إن والدها أرسل لها سيارة لتهرب من العراق لكنها صٌدمت حين لمحت بعض الجنود يفرون أيضًا... عدم هروبها خيانة للشعب وهروب الجندي خيانة للعراق. وتقول الأغنية المصرية التراثية المشهورة:"كتاب حياتي يا عين ماشفت زيو كتاب... الفرح فيه سطرين والباقي كلو عذاب"، والكتب التي صدرت، وستصدر، عن صدام وأفراد عائلته ستصور الفرح في مسيرة الحكم سطرين فقط، أما الباقي فكله عذاب من أجل الشعب ومنعته وعزته سواء كان ذلك في مجازر حلبجة والجنوب والدجيل، أو في اجتياح الكويت، أو في قتل الرفاق والأقرباء، أو في استدراج الاحتلال... أو حتي في الحرص علي السيجار الكوبي واعياد الميلاد وصبغة الشعر. ومع ذلك، يرفض العقل العربي إلا ان يتماهي ولو بجزء معقول مع الإرث البعثي بحثًا عن... "هيبة".