سمعت كثيرًا وقرأت أكثر عن عشرات الألوف من أفدنة أراض زراعية تروي بمياه الصرف الصحي، وعن القرارات الحكومية التي صدرت بخصوص إبادة المزروعات النامية في الأراضي المذكورة حرصا علي صحة المواطن كما قيل.. لكن ليس من سمع كمن رأي.. والقصة المأساة هي كما يلي: تقع محطة الصرف الصحي لمدينة طنطا في أول طريق المحلة الكبري، بجوار الترعة الفرعية لمياه النيل (وهي مياه سليمة أصلا أو يفترض ذلك).. ونتيجة لعدم القيام بالصيانة الدورية أو إجراء التطهير الدوري للمجري الخاص بالصرف الصحي (يطلق عليه: بحر المجاري) فإن منسوب مياه المجاري في المصرف المذكور يرتفع حتي يصل إلي منسوب مياه النيل المارة في ترعة حصة شبشير والتي تتفرع منها ترعة سبرباي مع غيرها من فروع.. وعندما يحدث ذلك تحل مياه الصرف الصحي محل مياه النيل، أو يطفو الماء الملوث فوق مياه الري النيلية في حالة المناوبة أو ما يسمي بالدور، ويصبح الوضع أسوأ في غير وقت المناوبة، حيث تمتلئ الترع الفرعية مع ترعة حصة شبشير بمياه الصرف غير الصحي تماما وهي المياه التي تروي أو يتم بها تسميم النباتات والإنسان والأسماك والماشية. وليس من اللائق وصف حال الترع لونا وشكلا ورائحة.. لكن من المؤلم بل والقاتل مشاهدة الفلاح يروي أرضه مضطرا بالمياه المذكورة، حتي مع علمه بمدي خطورتها باعتبار أنه لا يملك البديل، أو أن البديل هو الموت جوعا بعد التوقف عن زراعة وري أرضه ونعرف جميعًا أن مياه الصرف المذكورة تتضمن مع المخلفات الآدمية، مخلفات مصانع وعناصر ثقيلة وسموم، مع التركيز علي وجود الرصاص بكل ما يمثله من خطورة علي الإنسان، كما نعرف ما يصيب الأرض التي تروي بتلك المياه من تلف مميت، مع تلوثها فورا بحشائش سامة متطفلة وغريبة علي التربة المصرية التي عاشت سليمة آلاف السنين، هذا بالإضافة إلي نوع أكثر غرابة من قواقع تشبه قواقع البلهارسيا تلتهم النباتات مع ديدان وحشرات دخيلة أيضًا في جو يبعث علي الإحساس بالرعب، ليس من منظر تراجيديا العفن والموت المذكورة، وإنما من مجرد رؤية نبات أو فاكهة فيما بعد.. الواضح كذلك حدوث انهيارات في مواسير مياه النيل المارة عبورا فوق مجري الصرف غير الصحي، ذلك أن ارتفاع منسوب مياه الصرف والذي يصل إلي مواسير النيل بل ويغمرها، ويخفيها تماما، يسبب تآكل أجسام المواسير بفعل الأحماض والعناصر الثقيلة ذات التركيز المخيف في مياه الصرف، وعبر الثقوب التي تزداد اتساعا في تلك المواسير تندفع مياه المجاري أيضًا إلي مياه النيل الخاصة بالري.. أي أنه حتي لو حاول الفلاح الابتعاد عن الري المباشر بالمجاري فسوف يصيب التلوث والمرض نباتاته وحيواناته بمياه الري العادية، ومهما سمع عن أمراض السرطان والكبد والكلي والجلد مع التيفود، فإنه بالطبع لن يجد بديلا كما قلنا. هذا وقد حدثت بالفعل انهيارات في ماسورتي كوبري سبربابي، وكلتيهما تمر حاملة مياه الصرف تحت طريق خاص بالجرارات والماشية والبشر قبل مصرف سبربابي، في منطقة الشروة والجوهرية.. (كأنه لا يكفي تحويل مسار الطريق السريع الجديد كي يتفادي المرور عبر أرض الواصلين). اشتكي أهل سبرباي طنطا كثيرا: لوزارة الزراعة، والصحة، والحكم المحلي، والبيئة مع الري ومجلس المدينة، ووسائل الإعلام، تكررت الشكوي دون طائل.. مع ازدياد الخطورة بل وامتناع البعض عن تناول الخضراوات واللحم واللبن هلعا ورعبا، خاصة والأمراض المذكورة أصبحت عاملا مشتركا في كثير من بيوت القرية وما يجاورها، بما يشكل مأساة بشعة. وفي مجال الإحصاء، ونظرة إلي مستقبل زراعي غير مبشر بأي خير يكاد المرء يبكي -دون أدني مبالغة- وهو يمر بمساحة لا تقل عن مائة فدان من أرض كانت مثالا للخصوبة منذ سنوات، تحولت الآن إلي أرض بور تماما، ماتت بالكامل، خصما من أرض زراعية مصرية تتآكل أصلا بفعل النمو السكاني والسكني، بارت بسبب قربها من محطة الصرف.. مائة فدان أصبحت تاريخا، ذهبت ولن تعود، كي يصل كيلو الخضار إلي عشرين جنيها، حتي مع تلوثه وما يخفيه من سموم، والصين لن تصدر لنا الجرجير والطماطم. والوضع أكثر من مهين للبشر، ولأول مرة في حياتي أشم رائحة خضار خارج من ثلاجة منزلية، وكأنه لا يكفي الناس المبيدات الكيميائية والسماد والمخصبات الزراعية والهرمونات التي تصب جميعا في صالح أمراض مرعبة لم تعرفها مصر قبلا، وفي غير صالح البشر، والأجيال المقبلة بوجه خاص، بل والوطن إجمالا، بكل خطر مميت. يقول المهندس جمال السيد محمد: لقد ذهبنا حتي إلي القاهرة نكرر النداء: الرحمة أنقذوا أطفالنا.. لكن أحدا لم يهتم.. ويستمر إلقاء فضلات المصانع مع مياه الصرف غير الصحي كي يتغذي عليها محصولنا الزراعي، كي يصل محملا بالسموم إلي المعدة المصرية، وكي تزداد مستشفيات السرطان ازدحاما وأمراض الكبد والكلي انتشارًا، هذا مع ازدياد الشكوي حتي مع وجود وزارات وخبراء ومعامل وإعلام وخلافه، يا سادة: اهتموا بالبشر، ارحموا الناس يرحمكم الله.