لا يخلو الشارع من وجودهن.. نساء كثيرات لجأن إلي الشارع باعتباره الملاذ الأوحد بعد ان تعرضن للعديد من المآسي. علي كل رصيف تجد واحدة منهن دفعتها الهموم وصعوبة المعيشة لهذا الاختيار أو اختارته هي مهنة ووسيلة سريعة للكسب، ولكن هل ماتعرضن له أشد وطأة من وجودهن في الشارع؟ قصص هؤلاء السيدات ورأي المسئولين المتخصصين هو ما يمكن أن يقدم إجابة لهذا السؤال؟ روزاليوسف رصدت في تحقيق ميداني تلك المآسي التي اختلفت في نوعها واتفقت في نتائجها. أولي تلك القصص المأساوية لعبت بطولتها بدرية المرسي – السيدة العجوز التي اتخذت من الرصيف المواجه لاحد المساجد مسكنا لها، ليست متسولة كما يهيأ للبعض ولكنها لم تجد أحداً من ذويها يرحم شيخوختها. قاربت بدرية ال70 عاماً بالرغم من انها تبدو أكبر من ذلك بكثير، فقد كست ملامح وجهها التجاعيد عليه التي تلخص الأسي الذي واجهته في حياتها لتصل في نهاية المطاف إلي الشارع. قالت بدرية بصوت لا تكاد تسمعه اذ اختنق وامتزج بصوت بكائها.. تربيت في كنف عائلة متحابة، وبالرغم من كثرة عدد أفرادها والذين تجاوزوا عدد اصابع اليدين إلا أن والدينا غرسا بداخلنا المحبة والخوف علي بعضنا البعض. وما ان طرق احد الاشخاص الباب متقدما للزواج بي حتي رحبت الأسرة. لاقيت الامرين في زواجي ذلك خاصة بعد انجابي ثلاثة ابناء، فقد كان زوجي عامل ارزقي يعمل يوما ويمكث عشرة ايام في المنزل التي لم تتجاوز مساحته سوي حجرة واحدة. تنهدت ثم قالت: رضينا بالهم والهم مش راضي بينا، فبعد ان زادت الاعباء بانجابي الطفل الرابع وقعت حادثة لزوجي اقعدته عن العمل ثم توفاه الله بعد ذلك بعامين فاصبحت اسرتي في مهب الريح وقررت الخروج إلي الشارع للعمل، وسارت الحياة علي وتيرة واحدة إذ أعمل لانفق علي ابنائي طوال ال24 ساعة، وقد كنت سعيدة بذلك الانجاز حتي حصدت ثمار ما زرعته والتحق ابنائي بأعمال مختلفة ولكن لم يطلب واحد منهم ان اترك العمل. ثم مرت السنوات وتزوج الأربعة ومكث اصغرهم في منزلي لعدم تمكنه من الحصول علي سكن مستقل، ولكن في ذلك الوقت تلقيت أسوأ معاملة من زوجة ابني وساعدها صمته علي الافتراء أكثر وأكثر لدرجة جعلتها تقوم بطردي في منتصف الليل دون ان يحرك ساكنا.. لجأت إلي إخوته لاستعين بهم عليه، ولكن لم تشفع السنوات التي قضيتها في خدمتهم لاعادتي إلي مسكني، وتلقيت أسوأ معاملة في منازلهم فخرجت إلي أرصفة الشوارع عسي ان تكون احن علي منهم، وها أنا هنا منذ عامين لا مورد رزق لي فقد تركت الخدمة في المنازل لكبر سني وعدم قدرتي علي العمل، وأعيش علي اعانات وتبرعات اصحاب الخير. وعن مدي تقبلها للانتقال إلي مكان آخر يؤويها اضافت : هل سيكون أحن علي من أبنائي؟ نموذج آخر تقدمه لنا خيرية عبد الفتاح رغم أنها لم تتجاوز ال40 عاماً، تشارك بدرية احد الارصفة الأخري، تلخصت كل ممتلكاتها بحصيرة ممزقه وجلست عليها تراقب المارة، إلي جوارها بعض الاواني الصدئة ووابور جاز صغير الحجم، تعتمد علي صندوق القمامة الذي يجاورها في توفير مأكلها وقلما تستوقف أحد بائع الخضروات للشراء منه. كانت قصة خيرية مختلفة عمن سبقتها فهي مطلقة غير حاضنة وبالتالي لم تستحق شقة الزوجية او بديلا عنها يؤويها وحينما همت بالحديث تفوهت بكلمات غير مفهومة بالمرة، وما ان عادت لسابق هدوئها حتي سردت ما اودي بها لحياة الشارع تلك. فقد هجرت خيرية منزل اسرتها هربا للزواج ممن عاشت معه ورسمت معه في الهواء حياة اسرية مستقرة. أوهمها بأن السعادة بين يديه ولم تكن تعلم حجم المأساة التي اوقعت نفسها بها، فقد استولي علي مصوغاتها الذهبية ومزق الأوراق التي تثبت حقها في المنقولات ثم طلقها لتصبح طريدة لا تجرؤ علي الاقتراب من منزل والديها لجأت إلي إحدي الدور المتخصصة للايواء ولكن تم رفض طلبها، اذ انها لم تصل الي سن الشيخوخة لتستحق الاقامة في دور المسنين. ارتعدت وهي تستعيد ذكريات تلك اللحظة التي لفظها فيها المجتمع لتؤكد انها بذلك فريسة سهلة لكل من تسول له نفسه الاعتداء عليها. أشارت خيرية إلي العديد من المعاكسات التي تتعرض لها فلا يتركها أحد في حالها.. بالإضافة إلي تكرار احتجازها بأقسام البوليس منذ أن جلست في الشارع بتهمة التسول وتتعقد الامور اكثر واكثر في المأساة الثالثة، فعفاف محمود جمال ليست وحدها في الشارع اذ ترافقها ابنتها الصغيرة البالغة من العمر 12 عاماً . تقول عفاف التي استيقظت فزعة من نومها لتطمئن علي ابنتها الصغيرة التي تنام في العراء : «فوضت أمري إلي الله» فبعد وفاة زوجي طردني أهله من المنزل بحجة انتهاء التعاقد المبرم بينه وبين والده علي المسكن الذي كان يؤوينا فأصبحت في الشارع خاصة انني «مقطوعة من شجرة».لا أحد يحتويني أنا وابنتي وتضيف عفاف: «أنام بنصف عين» لحراسة ابنتي وجيدة التي ظلمتها الظروف كثيرًا، أراقبها تكبر ويتبدل احساسي بالفرح لبلوغها كباقي الامهات، فالشارع هو المقبرة الاولي للصغيرات والذي ينتهي إلي الضياع الابدي، اتعذب كثيرا حينما اجد في عينيها تساؤلات عن مصيرها وما سيحل بمستقبلها.. أجدها تراقب الفتيات الصغيرات وهن يذهبن إلي المدرسة ولكني لا استطيع ان افعل شيئا «وما باليد حيلة»... وتذكر انها سبق وتعرضت لمحاولة اغتصاب علي يد احد البلطجية وخلصها المارة من براثنه لذا فقد تمنت عشة صغيرة تحميها هي وابنتها من غدر الطامعين. وحذرت د.سهير عبد المنعم –رئيس قسم المعاملة الجنائية بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية- من خطورة الفقر علي النساء والذي يدفعهم لافتراش ارصفة الشوارع وتؤكد ان هؤلاء النساء هم وقود البلطجة، كما انهم فئة مستهدفة للاتجار بهم ومن السهل جذبهم للاعمال الخارجة عن القانون وارتكاب الجرائم، لذلك فلابد من سد منابع الفقر وتهيئة دور الاستضافة التابع للجمعيات الاهلية لاحتواء مثل هؤلاء النساء المعرضات للعنف، فلابد من منع وجودهن بالشوارع منذ البداية لتفادي العواقب الوخيمة التي قد تترتب علي تركهن يعانين ويتعرضن للمخاطر. ومن الناحية النفسية تري د. ثناء أحمد –استاذ الامراض النفسية بكلية الطب جامعة القاهرة- أن هؤلاء النساء هن مشاريع للانحراف بعد ان نبذهم المجتمع كالاوراق المهملة التي تتقاذفها الرياح، فهذه الشريحة تعرضت لقسوة جعلتها تخرج للشارع مهزومة في معركتها مع الحياة وأمام المجتمع وتظل مشكلتهن هي توفير الاموال ليبرز لهن المجتمع أنيابه ويتعرضون لضغوط مضاعفة في سبيل توفير احتياجاتهم مما يولد لديهما احساسًا بالكره تجاه أفراد ذلك المجتمع، ويظهر ذلك في شكل تصرفات عدوانية بعد ان اصبحن قنابل نفسية مريضة وموقوتة، فتلك المعيشة المكشوفة علي أرصفة الشوارع تدفع بعضهن للاكتئاب الذي يؤدي لاقدامهن علي الانتحار، وتدفع بأخرين تجاه الفصام الذهني من هنا يأتي دور المجتمع لاحتواء تلك الظاهرة سريعا بحيث تراقب احدي الجهات الشوارع وتمنع وجود الاطفال منذ الصغر في الشارع وتستضيف من لا مأوي لهم استضافة دائمة وليست نهارية فقط داخل دور الاستضافة التي يتم تخصيصها للنساء فقط. «احنا هنأوي مين ولا مين» هكذا بدأت ابتهاج عبد القادر مدير عام الادارة العامة للأسرة والطفولة بوزارة التضامن الاجتماعي سابقا، حديثها مؤكدة ان الوزارة توفر للمسنين والمسنات دور للايواء ،ولكننا لا نملك تكاليف إنشاء دورًا إيواء لهذه الفئة، وتضيف أن الدولة ليست مقصرة في حق اي من الفئات ولكن «أصحاب الشأن مش عايزين»، فهناك سيدات يحترفن الجلوس في الشارع للتسول، وبالتالي فهن يتخذن من الشارع مكانا لممارسة حرفتهن بارادتهن الشخصية.