د . رفعت لقوشة في أجندة التقويم.. هي الذكري التاسعة والخمسون لثورة «23 يوليو»، وبمواقيت الأحداث.. هي ذكراها الأولي التي تطل بعد ثورة «25 يناير» وقبل 25 يناير كان يجري الاحتفال بالذكري برتابة التقاليد البروتوكولية ..من بينها الشعارات المعلبة سواء جاءت الشعارات في عرائض الدفاع عن «يوليو» أو جاءت في دعاوي الهجوم عليها، ولكن ثورة «25 يناير»، تدعونا إلي شيء آخر، تدعونا إلي فتح نافذة نتحرر فيها من أسر الشعارات المعلبة وسابقة التجهيز.. بحثا عن قراءة غير تقليدية لثورة يوليو.. قراءة تضع نقاطا فوق حروف الصيرورة التاريخية. وابتداء.. فإن الصيرورة التاريخية تأخذنا إلي أربعة مداخلات أولية، مداخلات تقول: 1- إن التاريخ المصري لم يبدأ ليلة 23 يوليو.. فلقد بدأ قبل ذلك، وأن المستقبل المصري لم ينته مداه بثورة 23 يوليو.. فمازال المدي ممتدا، ومن ثم.. فالقطيعة التاريخية بين ثورة يوليو وما قبلها هي خطأ.. لم يكن - قبلا- مبررا ولا يعود - الآن - مقبولا.. فالمطلوب هو مصالحة تاريخية، وكذا.. فالقطعية التاريخية بين ثورة يوليو وأفق المستقبل هي - بالتوازي - خطأ يستبقي المستقبل تائها في الذاكرة المفقودة.. والمطلوب ألا نفقد الذاكرة. 2- إن عبدالناصر كان زعيما تاريخيا، بحق استلهامه لروح عصره وتعبيره عنها وبقدر تفاعله معها دون اغتراب، ولكن - في المقابل - فإن عبدالناصر لم يكن الزعيم الأول والأخير لمصر، كان هناك - قبله - زعماء بقامات تاريخية مثل سعد زغلول، وسوف يأتي - بعده - آخرون ولن تعوزهم القامة التاريخية، ولذلك.. فإنني أجد نفسي متحفظا إزاء المذكرات الإنشائية دفاعا عن عبدالناصر أو المذكرات الإنشائية نفيا له، فأنا أؤمن بمساحة الذاكرة في حياة الشعوب، فقاده الثورات يخلفون وراءهم مساحة يسكنونها في ذاكرة شعوبهم وعشرات المقالات تشويها لهم لا تخصم من المساحة شيئا وعشرات المقالات تمجيدا لهم لا تضيف إلي المساحة شيئا، فيما بقي منهم وما بقي لهم هو رصيد الوديعة في ذاكرة الناس.. ذاكرة الوجدان وذاكرة الوعي. 3- إنه لا توجد ثورة بدون أخطاء ولم تكن ثورة يوليو استثناء.. فلا أحد يسير تحت المطر ولا يبتل ولا أحد يأتي إلي الحياة ولا يتألم.. فكل ذلك من طبائع الأشياء، وطبائع الأشياء لا تقدم عذرا للاخطاء.. ولكنها ترسل دعوة للبحث دوما عن نقاط تصحيحية للأخطاء، فمن طبائع الأشياء- أيضا - ألا تقبل باستمرارية الخطأ. 4- إن ما جري ليلة 23 يوليو لم يكن انقلابا عسكريا وبحيثيات تقول: أ- إن قصص الانقلابات العسكرية لا تتضمن سوي سطر واحد فقط.. سطر يبدأ وينتهي باستلام السلطة، ولكن قصة «يوليو» ادخرت سطورا كثيرة امتدت بالأثر والتأثير إلي خارج الحدود.. إلهاما وتمثلا. ب- - إن قادة الانقلاب يسارعون تثبيتا لمواقعهم في السلطة، إلي بناء تحالفات مع قوي السيادة الاجتماعية القائمة، ولكن عبدالناصر ومن معه سارعوا إلي اتجاه آخر.. سارعوا إلي تفكيك قوي السيادة الاجتماعية ومناؤتها، تماما كما فعل «كرومويل» في انجلترا.. فلقد كان - هو الآخر - علي رأس جنوده ولكن لم توصف ثورته بأنها انقلاب. ج - إن قادة الانقلاب يطيحون بأنظمة لم تفقد شرعيتها ولم يناد الشعب بسقوط رءوسها، ولكن النظام الملكي - وقبل 23 يوليو - كان يعاني من تآكل رصيد الشرعية لدي جماهير غاضبة تهتف بسقوط الملك، ولدي قوي سياسية ومن بينها حزب الوفد الذي لم تتردد بعض أوساطة في طرح النظام الجمهوري بديلا للملكية وأدارت مشاورات حول الأطروحة. د- إن الانقلابات العسكرية معادية بطبيعتها للثقافة وطاردة للمثقفين الكبار، ولكن من أحب عبدالناصر ومن كرهوه لا ينكرون أن زمنه كان زمن الثقافة الرفيعة والفن الجميل، ويصعب علي المرء أن يجد سوابق لانقلابات عسكرية استبقت ثقافة رفيعة وفنا جميلا يتحدثان عنها ويذكران بها. لعلها مداخلات ترسم طريقا إلي المصالحة التاريخية بين ثورة 1919 وثورة 23 يوليو وثورة 25 يناير، فلقد اعطت ثورة 1919 بعض الحقوق لبعض الناس، وأعطت ثورة 23 يوليو بعض الحقوق لبعض الناس، ويبقي علي ثورة «25 يناير»، أن تضطلع بحاصل الجمع، لتعطي كل الحقوق لكل الناس، وهكذا تكتمل الصيرورة التاريخية. وفي حديث الصيرورة التاريخية، لابد وأن نعترف بأن عبدالناصر لم يكن ديمقراطيا بالمعني السياسي للكلمة، تماما مثل كل الذين سبقوه علي كرسي الحكم، فالملك فؤاد لم يكن ديمقراطيا وشارك في عام 1930 في الانقلاب علي ثورة 1919، والملك فاروق لم يكن ديمقراطيا وحكومات الأقلية التي تعاقبت في عهده تشهد بذلك، ولكن يبقي لعبدالناصر بعد ديمقراطي يتصل بثورة (25 يناير) وهو البعد الديمقراطي الاجتماعي الذي كان مقدرا له - في تصوري - أن يتلامس مع «بعد مدخر» في التجربة الناصرية لو اكتملت مراحل مشروعها وأعني به، البعد الديمقراطي السياسي. البعد المدخر كان كامنا في جوهر مشروع عبدالناصر وقانون حركته ويمكن مقاربته بإعادة قراءة المشروع اجتماعيا، وفي أبجدية «إعادة القراءة» فإنني لا أبدو متفقا مع من يصف المشروع ب«الاشتراكي» فالمشروع وبشواهده يتراءي أمامي علي نحو مغاير.. فعبدالناصر لم يكن اشتراكيا ولكنه كان ديمقراطيا اجتماعيا، وصحيح أن خطاب عبدالناصر تبني مصطلح الاشتراكية علي رأس عناوينه، ولكن التناول الاصطلاحي جاء علي سبيل الاستعارة اللفظية، فكل تضمينات الخطاب كانت تبشيرا بمجتمع الرفاهية الاجتماعية وهو مثل أعلي للديمقراطية الاجتماعية، ولعلنا نتذكر تعريف عبدالناصر للاشتراكية وكان تعريفا خاصا للغاية، فلقد عرفها بأنها منزل وسيارة وأمان لكل مواطن، وعندما ندقق مقولته.. فلسوف نكتشف معا إنه قام بتعريف الرفاهية الاجتماعية لمواطن ينتمي للطبقة الوسطي، وتتأكد الدلالة الديمقراطية الاجتماعية لانحيازات عبدالناصر، عندما نعاود قراءة أحد شعاراته والذي طالما نطق به تكرارا بحروف ضاغطة وهو شعار «تقريب الفوارق بين الطبقات» وفي تداعي السياق، فعندما تتقارب المسافات الاجتماعية تتشكل - بالضرورة - كتلة اجتماعية مركزية وفي مدارها يبرز التساؤل عن مواصفات هذه الكتلة؟، ولن نجد إلا إجابة واحدة وهي.. إنها مواصفات طبقة وسطي موسعة بممرات مفتوحة. الطبقة الوسطي الموسعة بممرات مفتوحة هي جوهر الديمقراطية الاجتماعية وكانت هي جوهر مشروع عبدالناصر وهدفه، وكل سياساته عمدت إلي تغذية روافد الطبقة الوسطي وفتح عراتها، فمجانية التعليم - مثالا - فتحت ممرًا لأبناء الشرائح الاجتماعية الدنيا لمحراك الصعود إلي الطبقة الوسطي، وقوانين الإصلاح الزراعي توالدت بها ضفيرة من الملاك الزراعيين الصغار واستطالت الضفيرة لتتماس مع مدارات الطبقة الوسطي وتضيف إليها ملاحق اجتماعية، والحوافز والأرباح التي حازها العمال وفرت لهم فائض دخل وجزءًا منه جري انفاقه عبر أنماط استهلاكية تعرفها الطبقة الوسطي وتمثلتها الطبقة العاملة.. الخ. اتساع رقعة الطبقة الوسطي حمل قضية العدالة الاجتماعية إلي ثورة مشروع عبدالناصر وإلي جدول أولوياته، وها هي العدالة الاجتماعية تطل مجددا كمطلب لثورة «25 يناير» والبؤرة والمطلب يبرهنان - مرة أخري- علي الصيرورة التاريخية ويستدعيان مخطوط العدالة الاجتماعية في التجربة الناصرية كمخزون خبرة لاجتهادات المستقبل واضاءاته. وفي العنوان الرئيسي للمخطوط.. فإن العدالة الاجتماعية تتجاوز مجرد إعادة توزيع الدخل بشكل أكثر عدالا تقليصا لفجوة الدخول، فإعادة التوزيع.. يرفع بالضرورة من مستوي معيشة الفقراء وهو هدف مطلوب، ولكنه لا يتراجع - بالتلازم- بنسبة الفقر وتراجعها هو الآخر هدف مطلوب، وفي مشروع عبدالناصر كانت العدالة الاجتماعية تتجاوز مجرد إعادة توزيع الدخل علي قاعدة أكثر عدلا.. وتتطلع لما هو أكثر تتطلع إلي خفض نسبة الفقر تلازما مع توسيع رقعة الطبقة الوسطي، ولكن المشروع لم تساوره أوهام القضاء علي الفقر، ولكنه وظف آلياته للحيلولة دون وجود فقراء ومهمشين، وهو خيار يستحق وقفة بين قوسين. ففي كل المجتمعات هناك من تلحق بهم صفة الفقراء، ولكن بعض المجتمعات تعرف الفقراء المهمشين والبعض الآخر لا يعرفهم، والفرق بين الفقير المهمش والفقير غير المهمش يكمن في مدي مصداقية ثقة الفقراء في الدولة، ففي غياب الثقة يصير الفقير مهمشا ولا يعود مهمشا في حضورها، وللأمانة، فلم يفرط مشروع عبدالناصر في الثقة، ولعلنا في المستقبل نحافظ عليها وندعمها.. فهي إحدي مفردات التعريف بالدولة المدنية، وأغلق القوس. وعودة علي بدء.. فلقد كان من المستحيل توسيع رقعة الطبقة الوسطي ورفع مستوي معيشة الفقراء وخفض نسبة الفقر دون دولاب حركة يفتح معدلات مرتفعة لنمو الدخل القومي ويؤمن حراك الفقراء صعودا علي مدارج السلم الاجتماعي، وعندما نعيد قراءة مشروع عبدالناصر.. فلسوف نجد أنه حدد هدفا مرجعيا وهو زيادة الدخل القومي الحقيقي بمعدل يقارب 7%، وبالتواتر.. فإن متوسط الدخل الفردي الحقيقي كان مخططا له - بدوره - أن ينمو بمعدل يعادل نحو 4.5% سنويا، ليتضاعف - هكذا - متوسط الدخل الفردي الحقيقي خلال (15) عامًا، وتنخفض - بالتبعية - نسبة الفقر بنحو 20% خلال تلك الفترة. واتصالا.. فإذا أخذنا في الاعتبار أن الخطة الخمسية الأولي تلقت إشارة التنفيذ في بداية ستينيات القرن الماضي، ثم أضفنا إلي توقيت الإشارة.. الفترة الزمنية (15 عامًا) والمقدرة لمضاعفة الدخل الفردي الحقيقي، فإننا نخلص إلي استقراء تقريبي يستشرف عام 1975 باعتباره عام «حسم الانجاز» لمشروع عبدالناصر، ولكن - للأسف- لم يستكمل المشروع أشواطه بعدما طالته ضربات الإعاقة تحت وطأة اخطاء في الداخل وترتيبات مضادة في الخارج وجري التعامل معها بانفعالات غير محسوبة ولعل ضربات الإعاقة خلفت وراءها درسا لا ينبغي أن ننساه في المستقبل، درسًا يقول: إنه من الخطورة أن تغيب معاملات التصحيح وأن يبطل مفعولها في التوقيت الصحيح. ولكن وإذا ذهبت مع قراءتي لمشروع عبدالناصر وصاحبته بافتراض نجاح المشروع في التوقيت المعلن بعام 1975، فإنني أكاد أجزم بأن المشروع كان سيعرف طريقه - وبزاوية الميل - إلي الديمقراطية السياسية في تلازم الاستجابة لنمو الطبقة الوسطي الموسعة التي بدورها كانت سوف تلح علي خيارات سياسية في إطار تعددية حزبية وفي ظل انتخابات حرة، فالديمقراطية الاجتماعية كانت تحتضن جنين الديمقراطية السياسية وحالت ضربة الإجهاض دون صرخة الميلاد، وعندما نقلب الأوراق.. فلسوف تستوقفنا ملاحظتان شاهدًا ودليلاً. أ- أن الرجل الثاني في حياة عبدالناصر كان دائمًا علي يمينه وليس علي يساره (عبدالحكيم عامر، زكريا محيي الدين، حسين الشافعي، أنور السادات)، فلقد بدا عبدالناصر أكثر استعدادًا لتسليم مشروعه إلي يمينه لا إلي يساره.. لأنه كان واعيا بمضمون المشروع وقانون حركته. ب- أن عبدالناصر صرح مرارًا باحتمال عودة الأحزاب ولم يصادر الاحتمال. وبشواهد الترجيح.. يتراءي لي أن عبدالناصر كان يرغب في ثنائية حزبية يتمثلها حزبان.. أحدهما علي يمينه والآخر علي يساره ويتداولان السلطة عبر صناديق الاقتراع، ليوثق - بذلك - الحقيقة السياسية لثورة يوليو. وبعد.. ففي نهر الزمن تتدفق متغيرات ومفاهيم ومستجدات، وعلي طول المجري تتبدل مواقع أعراب الإنشاء، وفي جملة الإنشاء لثورة 23 يوليو.. كانت الديمقراطية السياسية بمثابة نتيجة مشروطة بنجاح مشروعها، وفي جملة الإنشاء لثورة 25 يناير.. تتحول الديمقراطية السياسية إلي مقدمة ضرورية لنجاح مشروعهم ولكن وفي الجملتين معًا.. لا تغيب الديمقراطية الاجتماعية بحروفها ونقاطها، فالتاريخ لا يكرر نفسه ولكنه ينتصر لنفسه عندما لا يفقد ذاكرته، ولذلك.. يحق لثورة يناير أن تحتفل بثورة يوليو.. ويحق لثورة يوليو أن تحتفل بثورة يناير.