تسود حالة من الجدل داخل الأوساط الدولية حول مستقبل نفوذ الولاياتالمتحدة الأمريكية فى ظل تنامى وتيرة التحولات فى خريطة السياسة الدولية وصعود قوى عظمى اقتصاديًا وعسكريًا وفى مقدمتها الصين لتهدد بتراجع النفوذ الأمريكى معلنة رفضها الخضوع لسياسة القطب الأوحد وهو ما ذهب إليه العديد من السياسيين مؤكدين أن الهيمنة الأمريكية بدأت فى الاتجاه إلى الهاوية بعد أن انهكت الموارد الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة فى حروب عدة خلال الفترة الماضية. ويلقى مستقبل الولاياتالمتحدة كقوة عظمى فى النظام الدولى ومستقبل توازنات القوى وتحولاتها فى بنية النظام الدولى حيزًا كبيرًا من اهتمام الأكاديميات والمؤسسات البحثية الأمريكية بالقدر الذى تهتم به مؤسسات صنع القرار وتطرح هذه الاشكالية فى ورقة بحثية من سلسلة أوراق التى يصدرها مركز الدراسات المستقبلية التابع لمكتبة الإسكندرية. ومن المتعارف عليه أن الأكاديميات والمؤسسات السياسية فى أمريكا «كما فى غيرها من القوى الكبرى فى العالم» ترتبط كل منها بالأخرى ارتباطًا وثيقا، كما ترتبط المؤسسات العلمية التى تعرف بخزانات الفكر أو بالمؤسسات الصناعية والاقتصادية بما يجسد الارتباط بين العلم والقوة وكثير من القرارات السياسية التى تتخذها مؤسسات صنع القرار إنما تأتى على هدى من الخبراء فيما يتقاسم هذا الجدل حول مستقبل القوة الأمريكية تياران، يقر التيار الأول بحتمية انهيار هيمنتها على العالم التى مارستها خلال السنوات الماضية أما التيار الثانى فيرى على النقيض أن المركز الجيو استراتيجى للولايات المتحدة فى النظام العالمى لم يتغير وأنه لا يزال القوة الأكبر فى العالم المنوط به حماية نظامه الدولى. ويعبر عن الاتجاه الأول عالم السياسة «ستيفن والت» فى دراسة عنوانها «نهاية العصر الأمريكى» ويذهب فيها إلى نهاية الهيمنة الأمريكية على العالم ويدعو فيها أمريكا إلى أن تعيد ترتيب أولويات سياستها الخارجية وأن تخفف من التزاماتها الدولية بما يتناسب وهذه الأولويات التى يجب أن تنصب فى صالح تعظيم مصالحها القومية وذلك بهدف الحفاظ على موقعها الحالى وعدم إهدار مواردها الاقتصادية والعسكرية فى مغامرات غير محسوبة تفقد من رصيد قوتها كما حدث فى حربى أفغانستان والعراق اللتين شنتهما إدارة بوش الابن فى إطار حربها على الإرهاب. وستيفن والت هو تعبير عن الاتجاه الواقعى فى السياسة الخارجية الأمريكية وهو أستاذ العلاقات الدولية فى مدرسة جون إف كينيدى الحكومية بجامعة هارفارد وصاحب كتاب «ترويض القوة الأمريكية.. الحرب والثورة»، فيما تعبر الدراسة الثانية بعنوان «ضد خرافة الانحطاط الأمريكى لروبرت كاجان والمنشورة عن التيار الآخر كما يتضح من العنوان وفيه ينتقد الاتجاه الأول ويؤكد أنه يعتمد على تحليلات قصيرة النظرة وأسيرة للحظة الأزمة الاقتصادية الأخيرة التى أضرت بالصناعة المالية منذ عام 2008 مؤكدًا أنه اعتماد على التحليل التاريخى وأن أمريكا لم تمارس دور المهيمن على العالم وإن كانت نجحت فى صناعة مؤسسات وقواعد النظام الدولى وبالتالى فإن ما مرت به من لحظات امتزج فيها النفوذ تختلف كثيرًا عن اللحظة التى تمر بها حاليا بالانتكاس ويؤمن كاجان بضرورة قيادة أمريكا للعالم كما جاء فى عمله الأشهر «العالم كما صنعته أمريكا» وهو مشارك فى «مشروع القرن الأمريكى الجديد». وسعى القادة الأمريكيون للحفاظ على هذا المركز وفهموا كما فهم معظم الأمريكيين أن للصدارة العالمية منافع جمة فهى تجعل احتمالية أن تهددها القوى الأخرى أو تهدد مصالحها الحيوية بصورة مباشرة أقل وبتهدئة أمريكا لصراع القوى العظمى ومنح واشنطن القدرة على تشكيل موازين القوى الإقليمية، وساهمت الصدارة الأمريكية فى خلق بيئة دولية هادئة، وهو ما عزز الازدهار العالى فالتجار والمستثمرون يعملون بثقة أكبر عندما يقل خطر الحرب. وقد منحت هذه الصدارة أمريكا القدرة على العمل من أجل تحقيق أهداف إيجابية مثل: دعم حقوق الإنسان والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل وربما كان الأمريكيون وحدهم على القمة لكن المشهد عندما تقف دولة ما على قمة القوة وحدها فلا من سبيل آخر إلى السقوط وهو ما أثار قلق الأمريكيين وبالعودة إلى الخمسينيات فلقد حذر تقرير مجلس الأمن القومى رقم 68 من أن امتلاك الاتحاد السوفيتى للأسلحة الذرية ينذر بتحول لا رجعة فيه فى المشهد الجيو سياسى لصالح موسكو وبعد عدة أعوام أدى إطلاق السوفييت للسفينة سبوتنيك إلى إثارة مخاوف البعض من أن الوعد الذى قدمه نيكيتا خروشييف بدفن الرأسمالية الغربية سيتحقق وورد عن الرئيس جون كينيدى أنه كان يعتقد أن الاتحاد السوفيتى سيكون أغبى من الولاياتالمتحدة. أما الرئيس ريتشارد نيكسون فقد عبر صراحة عن رأيه فى أن أمريكا فى طور أن تصبح عملاقا بائسا وصدر هذا الكتاب المهم عام 1989 ويبدو أن الخوف من الانحدار الوشيك قد صاحبنا منذ أن وصلت الولاياتالمتحدة إلى قمة القوة الكونية وتجدد الجدل حول السقوط مع صدور كتاب بول كينيدى عن صعود وسقوط القوى العظمى وناقش فيه نظريته الشهيرة بأن أمريكا تواجه خطر «الترهل الإمبريالى»، ويعتقد كينيدى أن بريطانيا العظمى تراجعت إلى مصاف القوى المتوسطة لأنها أنفقت الكثير مدافعة عن مصالحها واسعة النطاق وخاضت حروبا وحذر من أن الولاياتالمتحدة تسير فى الطريق نفسها وقد تحدى جوزيف ناى هذه الرؤية المتشائمة لكينيدى فى كتابه «الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية» حيث قدم تنبؤًا دقيقا على المدى القريب وأكد ناى أن لأمريكا نقاط قوة غير تقليدية وأنها مقدر لها أن تكون القوة القائدة للعالم فى العديد من السنوات المقبلة وحتى أسامة بن لادن ظهر فى المشهد عندما ادعى أن حروب الولاياتالمتحدة على القاعدة فى أفغانستان والعراق تمثل ضربات قاتلة لقوتها ورغم كثرة ما كتب عن ديمومة التفوق الأمريكى فإنه دائم الخطأ فالقضية لم تكن قط إذا ما كانت أمريكا ستسير على خطى سقوط بريطانيا من مصاف القوى العظمى أو أنها ستعانى من السقوط الكارثى ولكن السؤال ما إذا كان «العهد الأمريكى» قد شارف على «الأفول» كما أنها غير قادرة على ممارسة النفوذ الذى تمتعت به من قبل وإذا كان هذا هو الأمر- وهذا ما أعتقده - فهل على واشنطن أن تتبنى استراتيجية تعترف بالحقيقة الجديدة وأن تستمر فى استخدام الأصول الثابتة للقوة الأمريكية لتعظيم المصلحة الوطنية؟ وقد تحدث علماء العلاقات الدولية عن هذه اللحظة باعتبارها اللحظة التى انتقل فيها النظام العالمى متعدد القوى إلى نظام ثنائى القطبية لكن مصير هذه الحرب الباردة ثنائية القطبية كان قد تقرر منذ البداية فى صالح أحد الطرفين وهو الطرف الأمريكى فى عام 1945على سبيل المثال أنتج الاقتصاد الأمريكى أكثر من نصف الإنتاج العالمى الإجمالى وقد كانت أمريكا الأمة المقرضة الكبرى بميزان تجارى إيجابى وامتلكت القوة البحرية والجوية الأكبر فى العالم وقاعدة صناعة والقوة الوحيدة التى تمتلك الأسلحة الذرية ومجموعة من القواعد العسكرية حول العالم وبدعمها لتفكيك الاستعمار ودعم إعادة البناء الأوروبى تمتعت واشنطن بالسمعة المقبولة فى معظم دول العالم النامية والمتقدمة والأكثر أهمية من هذا أن أمريكا قد تمتعت بوضع جيو سياسى جيد فلم يكن هناك أى قوة عظمى مماثلة لها فى نصف العالم الغربى، ولم يكن للأمريكيين أن يقلقوا من أى غزو خارجى. أما الخصم السوفيتى فكان اقتصاده أقل حجما وكفاءة وربما ارتكزت قوته العسكرية على القوات البرية إلا أنها لم تبلغ إمكانات القوة الأمريكية المنتشرة حول العالم. وقد ارتكزت مراكز القوة الكبرى الأخرى على أو بالقرب من أراضى أوراسيا أى بالقرب من الاتحاد السوفيتى وبعيدة عن أمريكا وهو ما جعل الخصوم السابقين مثل ألمانيا واليابان فى حاجة ماسة إلى الحماية الأمريكية من خطر الدب الروسى ومع استمرار الحرب الباردة تكون لدى أمريكاعدد كبير من الحلفاء الأقوياء والمخلصين بينما كان الاتحاد السوفيتى يقود مجموعة من الشركاء الضعاف والمتفككين نسبيًا حتى قبل انهيار الاتحاد السوفيتى، كان الموقف الأمريكى العام أفضل من موقف أى قوة عالمية فى التاريخ الحديث. ماذا فعلت أمريكا مع كل هذه المميزات الرائعة؟ فى عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، قامت ببناء وقيادة نظام اقتصادى وسياسى فى كل جزء من العالم فيما عدا هذه الأجزاء التى تقبع تحت السيطرة المباشرة للاتحاد السوفيتى وحلفائه الشيوعيين. وقد أنشأت أمريكا للعالم مؤسسات هى صناعة أمريكية بامتياز مثل الأممالمتحدة، البنك الدولى، صندوق النقد الدولى، والاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة و«الجات» ولعقود عديدة كانت صاحبة اليد العليا فى هذه الترتيبات فى أوروبا، أعادت خطة مارشال إحياء الاقتصادات المحلية، وقد ساعد التدخل الأمريكى المستتر على التأكد من أن الأحزاب الشيوعية لن تصل إلى الحكم فى هذه الدول.. وقد استطاع الناتو أن يؤمن السلام الأوروبى ويردع ضغط القوة العسكرية من نصيب أحد ضباط الولايات السوفييتية. وكان موقع القيادة العليا للتحالف دائمًا بالولاياتالمتحدة ولم يحدث أى مبادرة أمنية ذات أهمية بدون دعم وموافقة أمريكية، وكان الاستثناء الرئيسى الذى يؤكد هذه النقطة هو الهجوم الفرنسى - البريطانى - الإسرائيلى على مصر عام 1956 خلال أزمة قناة السويس والمعارضة الأمريكية القوية لها وقد بنت الولاياتالمتحدة نظاما من خلال اتفاقيات ثنائية مع اليابان - جنوب كوريا وأستراليا ونيوزيلاند والفلبين والعديد من الدول الأخرى وقد دمجت هذه الدول وغيرها فى المنظومة الاقتصادية الليبرالية وفى الشرق الأوسط ساعدت الولاياتالمتحدة على إنشاء إسرائيل والدفاع عنها كما بنت روابط أمنية مع المملكة العربية السعودية والأردن وشاه إيران والعديد من دول الخليج الصغرى واستمرت أمريكا فى ممارسة موقع الهيمنة فى نصف العالم الغربى مستخدمة أدوات متنوعة للإطاحة بالحكومات اليسارية فى جواتيما وجمهورية الدومنيكان، وتشيلى ونيكاراجوا. وفى إفريقيا التى لم تر كساحة حيوية، فعلت أمريكا ما يكفى لضمان حماية مصالحها المتواضعة هناك ومن المؤكد ان أمريكا لم تمارس سيطرة كاملة على الأمور فى العديد من المناطق التى كانت داخل نطاق النظام التى وضعته فلم تستطع منع الثورة الإيرانية عام 1979 وفشلت فى منع فرنسا من الخروج من الترتيبات العسكرية لحلف الناتو عام 1966 كما أنها لم تمنع إسرائيل والهند وكوريا الشمالية وباكستان من امتلاك أسلحة نووية لكن أمريكا مارست نفوذا ضخما فى كل هذه المناطق خاصة فى القضايا الكبرى والأكثر من هذا أنه بالرغم من أن موقع أمريكا كان يتعرض للتحدى فى بعض الأحيان والخسارة فى فيتنام أوضح مثال على هذافلم يكن الوضع الكلى لأمريكا قط عرضة للخطر فقد تماسكت منظومة التحالفات التى أقامتها أمريكا فى الهند الصينية. وفى السبعينيات أقامت بكين شراكة قوية مع واشنطن علاوة على هذا تخلت الصين فى النهاية عن الماركسية اللينينية كأيديولوجيا حاكمة وأقلعت عن التفكير فى الثورة العالمية واندمجت فى بنية المؤسسات التى صنعتها وأصبحت طهران منافسا على الحكم ولكن موقع أمريكا فى الشرق الأوسط لم يهتز وقد استمر النفط فى التدفق من الخليج العربى وقد ازداد أمن وازدهار إسرائيل وتفككت منظومة حلفاء السوفييت الرئيسيين مثل مصر التى تركت التحالفات السوفيتية وأخير اصطفت إلى جانب أمريكا ورغم النكسات المؤقتة ظلت ملامح العصر الأمريكى، هذا هو ما فعلته أمريكا فى الفترة من 1945 حتى 1990 وقد فعلت هذا بينما كانت تتمتع بنصف قرن من النمو الاقتصادى الذى لم يكن له قرين فى التاريخ الحديث ثم انهارت الإمبراطورية السوفيتية تاركة أمريكا القوة العظمى الوحيدة فى عالم أحادى القطب وطبقا لمستشار الأمن القومى الأسبق برنت سكوكروفت فقد وجدت أمريكا نفسها تقف وحيدة على قمة القوة العالمية وقد كان هذا بالفعل موقفا غير مسبوق فى التاريخ وهو ما قدم لنا فرصة نادرة لتشكيل العالم. وإلى هذا اتجهت واشنطن بمحاولة جر معظم دول حلف وارسو للانضمام إلى حلف الناتو والتشجيع على نشر اقتصاد السوق والمؤسسات الديمقراطية داخل دول العالم الشيوعى السابق وقد كانت هذه لحظة انتصار. وشهد العقدان الأخيران صعود العديد من مراكز القوة الجديدة فى العديد من المناطق المهمة فى العالم. والمثال الأبرز على هذا هو الصين التى كان نموها الاقتصادى الصاروخى أبرز التطورات الجيو سياسية فى العقود الأخيرة بدون شك منذ 1900، وقد كانت أمريكا أضخم قوى العالم اقتصاديا ولكن من المحتمل أن تفوق الصين أمريكا فى نسبة الإنتاج الاقتصادى الإجمالى قبل حلول عام 2025. وقد زادت الميزانية العسكرية لبكين بما يقارب 10% فى العام ومن المحتمل أن تترجم ثروتها الاقتصادية إلى قوة عسكرية فى المستقبل وإذا كانت الصين مثل كل القوى العظمى السابقة -بما فيها أمريكا فإن تحديدها لمصالحها الحيوية سيتزايد كما تتزايد قوتها كما أنها ستحاول أن تستخدم «عضلاتها» المتنامية لحماية نطاقها المتمدد من النفوذ وإذا أخذنا فى الاعتبار اعتمادها على الواردات من المواد الخام خاصة الطاقة والنمو المعتمد على التوسع فى الصادرات، فإن القادة الصينيين الحكماء سيريدون التأكد من أنه لا أحد سيكون فى موقع يسمح له بأن يمنعهم من الحصول على الموارد والوصول إلى الأسواق التى يعتمد عليها مستقبل ازدهارهم واستقرارهم السياسى هذا الموقف يشجع بكين على تحدى الدور الأمريكى الحالى فى آسيا، ومثل هذه الطموحات يجب ألا تكون صعبة الفهم على الأمريكيين أخذا فى الاعتبار أن أمريكا قد سعت إلى إقصاء القوى الخارجية من جوارها منذ إعلان مبدأ «مونرو» من أول المبادئ التى رسمت سياسة أمريكا تجاه العالم وبنفس المنطق ستشعر الصين بعدم الارتياح إذا ما استمرت واشنطن فى الحفاظ على شبكة تحالفاتها الآسيوية وحجم الوجود العسكرى الأمريكى فى شرق آسيا وفى المحيط الهندى وبمرور الوقت ستحاول الصين أن تقنع الدول الآسيوية الأخرى بفك تحالفاتها مع أمريكا، وستحاول واشنطن أن تقاوم مثل هذه الجهود وبالتالى ستنشب منافسة أمنية كبرى بين الطرفين وتشهد الترتيبات الأمنية التى كانت علامة على العصر الأمريكى أيضا تآكلا بسبب صعود العديد من القوى الإقليمية الرئيسية ومازالت معاداة أمريكا أقل فى الهند والبرازيل وليست أكثر اكتراثا ولكن بسبب قادتهما المنتخبين ديمقراطيًا وأدى صعود هذه القوى الجديدة إلى النهاية وستكون النتيجة إما ثنائية قطبية محددة بالتنافس الصينى الأمريكى وإما تعددية قطبية تحوى العديد من القوى العظمى المتباينة فى قوتها ومن المحتمل أن تظل أمريكا هى الأقوى ولكن قدرتها على القيادة قد تقلصت وسيظل هذا التقلص فى تزايد.